هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين، والسبب في ذلك،
ودعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك، فقال: {
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
} وهؤلاء رؤساء الكفر، وأئمة الضلال، الذين جمعوا بين الكفر بالله
وآياته، والصد لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، التي هي الإيمان بما دعت
إليه الرسل واتباعه.
فهؤلاء {
أَضَلَّ
} الله {
أَعْمَالَهُمْ
} أي: أبطلها وأشقاهم بسببها، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها
الحق وأولياء الله، أن الله جعل كيدهم في نحورهم، فلم يدركوا مما قصدوا
شيئا، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها، أن الله سيحبطها عليهم،
والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل، وهو كل غاية لا يراد بها وجه الله من
عبادة الأصنام والأوثان، والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة،
كانت الأعمال لأجلها باطلة.
وأما {
وَالَّذِينَ آمَنُوا
} بما أنزل الله على رسله عموما، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم خصوصا، {
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
} بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة.
{
كَفَّرَ
} الله {
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
} صغارها وكبارها، وإذا كفرت سيئاتهم، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة. {
وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
} أي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم، بتنميته
وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم، والسبب في ذلك أنهم: {
اتبعوا الْحَقُّ
} الذي هو الصدق واليقين، وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم، الصادر {
مِنْ رَبِّهِمْ
} الذي رباهم بنعمته، ودبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه، فصلحت
أمورهم، فلما كانت الغاية المقصودة لهم، متعلقة بالحق المنسوب إلى الله
الباقي الحق المبين، كانت الوسيلة صالحة باقية، باقيا ثوابها.
{
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
} حيث بين لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها
ويتميزون {
ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة
}
يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم، ونصرهم على أعدائهم-: {
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
} في الحرب والقتال، فاصدقوهم القتال، واضربوا منهم الأعناق، حَتَّى
تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم، فإذا فعلتم ذلك، ورأيتم الأسر
أولى وأصلح، {
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ
} أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شد منهم الوثاق
اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم، فإذا كانوا تحت أسركم، فأنتم بالخيار
بين المن عليهم، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء، وإما أن تفدوهم بأن لا
تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم
عندهم.
وهذا الأمر مستمر {
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
} أي: حتى لا يبقى حرب، وتبقون في المسألة والمهادنة، فإن لكل مقام
مقالا، ولكل حال حكما، فالحال المتقدمة، إنما هي إذا كان قتال وحرب.
فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل ولا أسر.
{
ذَلِكَ
} الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم،
وانتصار بعضهم على بعض {
وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ
} فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع
واحد أبدا، حتى يبيد المسلمون خضراءهم.
{
وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
} ليقوم سوق الجهاد، ويتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن
من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة،
فإنه إيمان ضعيف جدا، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا.
{
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
} لهم ثواب جزيل، وأجر جميل، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون
كلمة الله هي العليا.
فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم، أي: لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها وينميها
لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا والآخرة.
{
سَيَهْدِيهِمْ
} إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة، {
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
} أي: حالهم وأمورهم، وثوابهم يكون صالحا كاملا لا نكد فيه، ولا تنغيص
بوجه من الوجوه.
{
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
} أي: عرفها أولا، بأن شوقهم إليها، ونعتها لهم، وذكر لهم الأعمال
الموصلة إليها، التي من جملتها القتل في سبيله، ووفقهم للقيام بما أمرهم
به ورغبهم فيه، ثم إذا دخلوا الجنة، عرفهم منازلهم، وما احتوت عليه من
النعيم المقيم، والعيش السليم.
هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة
إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم
الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات،
ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق
الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب
النصر، من الثبات وغيره.
وأما الذين كفروا بربهم، ونصروا الباطل، فإنهم في تعس، أي: انتكاس من
أمرهم وخذلان.
{
وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
} أي: أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق، فرجع كيدهم في نحورهم، وبطلت
أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجه الله.
ذلك الإضلال والتعس للذين كفروا، بسبب أنهم {
كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
} من القرآن الذي أنزله الله، صلاحا للعباد، وفلاحا لهم، فلم يقبلوه، بل
أبغضوه وكرهوه، {
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
}
أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، {
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
} فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب، فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا
يسرة إلا وجدوا ما حولهم، قد بادوا وهلكوا، واستأصلهم التكذيب والكفر،
فخمدوا، ودمر الله عليهم أموالهم وديارهم، بل دمر أعمالهم ومكرهم،
وللكافرين في كل زمان ومكان، أمثال هذه العواقب الوخيمة، والعقوبات
الذميمة.
وأما المؤمنون، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب، ويجزل لهم كثير الثواب.
{
ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا
} فتولاهم برحمته، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتولى جزاءهم ونصرهم، {
وَأَنَّ الْكَافِرِينَ
} بالله تعالى، حيث قطعوا عنهم ولاية الله، وسدوا على أنفسهم رحمته {
لَا مَوْلَى لَهُمْ
} يهديهم إلى سبل السلام، ولا ينجيهم من عذاب الله وعقابه، بل أولياؤهم
الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون.
لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين، ذكر ما يفعل بهم في الآخرة، من دخول
الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار، التي تسقي تلك البساتين الزاهرة،
والأشجار الناظرة المثمرة، لكل زوج بهيج، وكل فاكهة لذيذة.
ولما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم، ذكر أنهم وُكِلُوا إلى أنفسهم، فلم
يتصفوا بصفات المروءة، ولا الصفات الإنسانية، بل نزلوا عنها دركات،
وصاروا كالأنعام، التي لا عقل لها ولا فضل، بل جل همهم ومقصدهم التمتع
بلذات الدنيا وشهواتها، فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة دائرة حولها، غير
متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة، ولهذا كانت النار مثوى لهم، أي:
منزلا معدا، لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها.
أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه، علما وعملا، قد علم الحق
واتبعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق
وأضله، واتبع هواه بغير هدى من الله، ومع ذلك، يرى أن ما هو عليه من
الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت بين الطائفتين، أهل
الحق وأهل الغي!
أي: مثل الجنة التي أعدها الله لعباده، الذين اتقوا سخطه، واتبعوا
رضوانه، أي: نعتها وصفتها الجميلة.
{
فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ
} أي: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارة، ولا بكدورة، بل هو
أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحا، وألذها شربا.
{
وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
} بحموضة ولا غيرها، {
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
} أي: يلتذ به شاربه لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع
الرأس، ويغول العقل.
{
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى
} من شمعه، وسائر أوساخه.
{
وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
} من نخيل، وعنب، وتفاح، ورمان، وأترج، وتين، وغير ذلك مما لا نظير له في
الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم.
ثم قال: {
وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
} يزول بها عنهم المرهوب، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي
اشتد حرها، وتضاعف عذابها، {
وَسُقُوا
} فيها {
مَاءً حَمِيمًا
} أي: حارا جدا، {
فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
}
فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين، والعاملين والعملين.
يقول تعالى: ومن المنافقين {
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
} ما تقول استماعا، لا عن قبول وانقياد، بل معرضة قلوبهم عنه، ولهذا قال:
{
حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ
} مستفهمين عما قلت، وما سمعوا، مما لم يكن لهم فيه رغبة {
مَاذَا قَالَ آنِفًا
} أي: قريبا، وهذا في غاية الذم لهم، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير
لألقوا إليه أسماعهم، ووعته قلوبهم، وانقادت له جوارحهم، ولكنهم بعكس هذه
الحال، ولهذا قال: {
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
} أي: ختم عليها، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم،
التي لا يهوون فيها إلا الباطل.
ثم بين حال المهتدين، فقال: {
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
} بالإيمان والانقياد، واتباع ما يرضي الله {
زَادَهُمْ هُدًى
} شكرا منه تعالى لهم على ذلك، {
وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
} أي: وفقهم للخير، وحفظهم من الشر، فذكر للمهتدين جزاءين: العلم النافع،
والعمل الصالح.
أي: فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون {
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً
} أي: فجأة، وهم لا يشعرون {
فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا
} أي: علاماتها الدالة على قربها.
{
فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
} أي: من أين لهم، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا
ويستعتبوا؟ قد فات ذلك، وذهب وقت التذكر، فقد عمروا ما يتذكر فيه من
تذكر، وجاءهم النذير.
ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت، فإن موت الإنسان قيام
ساعته.
العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه
أن يعمل بمقتضاه.
وهذا العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل
إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك. والطريق إلى
العلم بأنه لا إله إلا هو أمور: أحدها بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته،
وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته فإنها توجب بذل الجهد في التأله
له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه
المنفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية،
فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر
والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داع إلى العلم،
بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة،
وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها
نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا ينصرون من عبدهم، ولا
ينفعونهم بمثقال ذرة، من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم
بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواص الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا، ورأيا
وصوابا، وعلما -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون- قد شهدوا لله
بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد
أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع
حكمته، وغرائب خلقه.
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله،
وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها، لا بد أن يكون عنده
يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من
كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون
كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشبه والخيالات، ولا يزداد -على تكرر الباطل
والشبه- إلا نموا وكمالا.
هذا، وإن نظرت إلى الدليل العظيم، والأمر الكبير -وهو تدبر هذا القرآن
العظيم، والتأمل في آياته- فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل
به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره.
وقوله: {
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
} أي: اطلب من الله المغفرة لذنبك، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة
والدعاء بالمغفرة، والحسنات الماحية، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم.
{
و
} استغفر أيضا {
للمؤمنين وَالْمُؤْمِنَات
} فإنهم -بسبب إيمانهم- كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة.
ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم، وإذا كان مأمورا
بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم، فإن من لوازم ذلك
النصح لهم، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما
يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن
مساويهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم، ويزول ما
بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم
ومعاصيهم.
{
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
} أي: تصرفاتكم وحركاتكم، وذهابكم ومجيئكم، {
وَمَثْوَاكُمْ
} الذي به تستقرون، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات، فيجازيكم على ذلك
أتم الجزاء وأوفاه.
يقول تعالى: {
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا
} استعجالا ومبادرة للأوامر الشاقة: {
لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ
} أي: فيها الأمر بالقتال.
{
فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ
} أي: ملزم العمل بها، {
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ
} الذي هو أشق شيء على النفوس، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه
الأوامر، ولهذا قال: {
رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ
} من كراهتهم لذلك، وشدته عليهم.
ثم ندبهم تعالى إلى ما هو الأليق بحالهم، فقال: {
فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ
} أي: فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم، ويجمعوا عليه
هممهم، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم، وليفرحوا بعافية الله
تعالى وعفوه.
{
فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ
} أي: جاءهم الأمر جد، وأمر محتم، ففي هذه الحال لو صدقوا الله
بالاستعانة به، وبذل الجهد في امتثاله {
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
} من حالهم الأولى، وذلك من وجوه:
منها: أن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلا إن أعانه الله، فلا يطلب
زيادة على ما هو قائم بصدده.
ومنها: أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل، ضعف عن العمل، بوظيفة وقته،
وبوظيفة المستقبل، أما الحال، فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره، والعمل
تبع للهمة، وأما المستقبل، فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا
يعان عليه.
ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر،
شبيه بالمتألي الذي يجزم بقدرته، على ما يستقبل من أموره، فأحرى به أن
يخذل ولا يقوم بما هم به ووطن نفسه عليه، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه
وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته، ثم كلما جاء
وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعينا بربه في ذلك،
فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.
ثم ذكر تعالى حال المتولي عن طاعة ربه، وأنه لا يتولى إلى خير، بل إلى
شر، فقال: {
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
} أي: فهما أمران، إما التزام لطاعة الله، وامتثال لأوامره، فثم الخير
والرشد والفلاح، وإما إعراض عن ذلك، وتولٍ عن طاعة الله، فما ثم إلا
الفساد في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الأرحام.
{
أُولَئِكَ الَّذِينَ
} أفسدوا في الأرض، وقطعوا أرحامهم {
لَعَنَهُمُ اللَّهُ
} بأن أبعدهم عن رحمته، وقربوا من سخط الله.
{
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
} أي: جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه، فلهم آذان، ولكن لا تسمع
سماع إذعان وقبول، وإنما تسمع سماعا تقوم به حجة الله عليها، ولهم أعين،
ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات، ولا يلتفتون بها إلى البراهين
والبينات.
أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم
لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من
الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب
الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها
ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرفهم بربهم،
وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب
الوبيل.
{
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
} أي: قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت، فلا يدخلها خير أبدا؟ هذا هو
الواقع.
يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان على أعقابهم إلى الضلال
والكفران، ذلك لا عن دليل دلهم ولا برهان، وإنما هو تسويل من عدوهم
الشيطان وتزيين لهم، وإملاء منه لهم: {
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُورًا
}
وذلك أنهم قد تبين لهم الهدى، فزهدوا فيه ورفضوه، و {
قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
} من المبارزين العداوة لله ولرسوله {
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ
} أي: الذي يوافق أهواءهم، فلذلك عاقبهم الله بالضلال، والإقامة على ما
يوصلهم إلى الشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي.
{
ذَلِكَ
} العذاب الذي استحقوه ونالوه {
بـ
} سبب {
أنهم اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ
} من كل كفر وفسوق وعصيان.
{
وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ
} فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه، ولا يدنيهم منه، {
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
} أي: أبطلها وأذهبها، وهذا بخلاف من اتبع ما يرضي الله وكره سخطه، فإنه
سيكفر عنه سيئاته، ويضاعف أجره وثوابه.
يقول تعالى: {
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
} من شبهة أو شهوة، بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله، أن الله لا
يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله؟ هذا ظن لا يليق
بحكمة الله، فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، وذلك بالابتلاء
بالمحن، التي من ثبت عليها، ودام إيمانه فيها، فهو المؤمن حقيقة، ومن
ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، وحين أتاه الامتحان، جزع وضعف إيمانه،
وخرج ما في قلبه من الضغن، وتبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع
أنه تعالى قال: {
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
}
أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم. {
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
} أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم، فإن الألسن
مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر {
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
} فيجازيكم عليها.
ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده، وهو الجهاد في سبيل الله، فقال: {
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
} أي: نختبر إيمانكم وصبركم، {
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ
} فمن امتثل أمر الله وجاهد في سبيل الله لنصر دينه وإعلاء كلمته فهو
المؤمن حقا، ومن تكاسل عن ذلك، كان ذلك نقصا في إيمانه.
هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها، من الكفر بالله، وصد الخلق عن
سبيل الله الذي نصبه موصلا إليه.
{
وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
} أي: عاندوه وخالفوه عن عمد وعناد، لا عن جهل وغي وضلال، فإنهم {
لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
} فلا ينقص به ملكه.
{
وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
} أي: مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل، بأن لا تثمر لهم إلا الخيبة
والخسران، وأعمالهم التي يرجون بها الثواب، لا تقبل لعدم وجود شرطها.
يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم أمورهم، وتحصل سعادتهم الدينية
والدنيوية، وهو: طاعته وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه، والطاعة هي
امتثال الأمر، واجتناب النهي على الوجه المأمور به بالإخلاص وتمام
المتابعة.
وقوله: {
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ
} يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها، بما يفسدها، من من بها وإعجاب، وفخر
وسمعة، ومن عمل بالمعاصي التي تضمحل معها الأعمال، ويحبط أجرها، ويشمل
النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها، أو الإتيان بمفسد من مفسداتها.
فمبطلات الصلاة والصيام والحج ونحوها، كلها داخلة في هذا، ومنهي عنها،
ويستدل الفقهاء بهذه الآية على تحريم قطع الفرض، وكراهة قطع النفل، من
غير موجب لذلك، وإذا كان الله قد نهى عن إبطال الأعمال، فهو أمر
بإصلاحها، وإكمالها وإتمامها، والإتيان بها، على الوجه الذي تصلح به علما
وعملا.
هذه الآية والتي في البقرة قوله: {
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
} مقيدتان، لكل نص مطلق، فيه إحباط العمل بالكفر، فإنه مقيد بالموت عليه،
فقال هنا: {
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر {
وَصَدُّوا
} الخلق {
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
} بتزهيدهم إياهم بالحق، ودعوتهم إلى الباطل، وتزيينه، {
ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ
} لم يتوبوا منه، {
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
} لا بشفاعة ولا بغيرها، لأنه قد تحتم عليهم العقاب، وفاتهم الثواب، ووجب
عليهم الخلود في النار، وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار.
ومفهوم الآية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم، فإن الله يغفر لهم
ويرحمهم، ويدخلهم الجنة، ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن
سبيله، والإقدام على معاصيه، فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة، ولم
يغلقها عن أحد، ما دام حيا متمكنا من التوبة.
وسبحان الحليم، الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يعافيهم، ويرزقهم،
كأنهم ما عصوه مع قدرته عليهم.
ثم قال تعالى: {
فَلَا تَهِنُوا
} أي: لا تضعفوا عن قتال عدوكم، ويستولي عليكم الخوف، بل اصبروا واثبتوا،
ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد، طلبا لمرضاة ربكم، ونصحا للإسلام،
وإغضابا للشيطان.
ولا تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم، طلبا للراحة، {
و
} الحال أنكم {
أنتم الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ
} أي: ينقصكم {
أَعْمَالُكُم
}
فهذه الأمور الثلاثة، كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم الأعلين، أي:
قد توفرت لهم أسباب النصر، ووعدوا من الله بالوعد الصادق، فإن الإنسان،
لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره وأضعف عددا، وعددا، وقوة داخلية وخارجية.
الثاني: أن الله معهم، فإنهم مؤمنون، والله مع المؤمنين، بالعون، والنصر،
والتأييد، وذلك موجب لقوة قلوبهم، وإقدامهم على عدوهم.
الثالث: أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئا، بل سيوفيهم أجورهم، ويزيدهم
من فضله، خصوصا عبادة الجهاد، فإن النفقة تضاعف فيه، إلى سبع مائة ضعف،
إلى أضعاف كثيرة، وقال تعالى: {
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا
مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ
الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ
وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ
}
فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده، أوجب له ذلك
النشاط، وبذل الجهد فيما يترتب عليه الأجر والثواب، فكيف إذا اجتمعت هذه
الأمور الثلاثة فإن ذلك يوجب النشاط التام، فهذا من ترغيب الله لعباده،
وتنشيطهم، وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم.
هذا تزهيد منه لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها، بأنها
لعب ولهو، لعب في الأبدان ولهو في القلوب، فلا يزال العبد لاهيا في ماله،
وأولاده، وزينته، ولذاته من النساء، والمآكل والمشارب، والمساكن
والمجالس، والمناظر والرياسات، لاعبا في كل عمل لا فائدة فيه، بل هو دائر
بين البطالة والغفلة والمعاصي، حتى تستكمل دنياه، ويحضره أجله، فإذا هذه
الأمور قد ولت وفارقت، ولم يحصل العبد منها على طائل، بل قد تبين له
خسرانه وحرمانه، وحضر عذابه، فهذا موجب للعاقل الزهد فيها، وعدم الرغبة
فيها، والاهتمام بشأنها، وإنما الذي ينبغي أن يهتم به ما ذكره بقوله: {
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا
} بأن تؤمنوا بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتقوموا بتقواه
التي هي من لوازم الإيمان ومقتضياته، وهي العمل بمرضاته على الدوام، مع
ترك معاصيه، فهذا الذي ينفع العبد، وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه، وتبذل
الهمم والأعمال في طلبه، وهو مقصود الله من عباده رحمة بهم ولطفا،
ليثيبهم الثواب الجزيل، ولهذا قال: {
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا
يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
} أي: لا يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم، ويعنتكم من أخذ أموالكم،
وبقائكم بلا مال، أو ينقصكم نقصا يضركم، ولهذا قال: {
إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
}
أي: ما في قلوبكم من الضغن، إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.
والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها، أنكم تمتنعون
منها، أنكم {
تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
} على هذا الوجه، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية.
{
فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ
} أي: فكيف لو سألكم، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟
أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك.
ثم قال: {
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ
} لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى، وفاته خير كثير، ولن يضر الله بترك
الإنفاق شيئا.
فإن الله هو {
الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ
} تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم، لجميع أموركم.
{
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
} عن الإيمان بالله، وامتثال ما يأمركم به {
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ
} في التولي، بل يطيعون الله ورسوله، ويحبون الله ورسوله، كما قال تعالى:
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
}