يشير تعالى إشارة دالة على التعظيم إلى {
آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } أي: آياته محكمة، صدرت من حكيم
خبير.
من إحكامها، أنها جاءت بأجل الألفاظ وأفصحها، وأبينها، الدالة على أجل
المعاني وأحسنها.
ومن إحكامها، أنها محفوظة من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص،
والتحريف.
ومن إحكامها: أن جميع ما فيها من الأخبار السابقة واللاحقة، والأمور
الغيبية كلها، مطابقة للواقع، مطابق لها الواقع، لم يخالفها كتاب من
الكتب الإلهية، ولم يخبر بخلافها، نبي من الأنبياء، [ولم يأت ولن يأتي
علم محسوس ولا معقول صحيح، يناقض ما دلت عليه]
ومن إحكامها: أنها ما أمرت بشيء، إلا وهو خالص المصلحة، أو راجحها، ولا
نهت عن شيء، إلا وهو خالص المفسدة أو راجحها، وكثيرا ما يجمع بين الأمر
بالشيء، مع ذكر [حكمته] فائدته، والنهي عن الشيء، مع ذكر مضرته.
ومن إحكامها: أنها جمعت بين الترغيب والترهيب، والوعظ البليغ، الذي تعتدل
به النفوس الخيرة، وتحتكم، فتعمل بالحزم.
ومن إحكامها: أنك تجد آياته المتكررة، كالقصص، والأحكام ونحوها، قد اتفقت
كلها وتواطأت، فليس فيها تناقض، ولا اختلاف. فكلما ازداد بها البصير
تدبرا، وأعمل فيها العقل تفكرا، انبهر عقله، وذهل لبه من التوافق
والتواطؤ، وجزم جزما لا يمترى فيه، أنه تنزيل من حكيم حميد.
ولكن - مع أنه حكيم - يدعو إلى كل خلق كريم، وينهى عن كل خلق لئيم، أكثر
الناس محرومون الاهتداء به، معرضون عن الإيمان والعمل به، إلا من وفقه
اللّه تعالى وعصمه، وهم المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق.
فإنه { هُدًى } لهم، يهديهم إلى الصراط
المستقيم، ويحذرهم من طرق الجحيم، { وَرَحْمَة
} لهم، تحصل لهم به السعادة في الدنيا والآخرة، والخير الكثير،
والثواب الجزيل، والفرح والسرور، ويندفع عنهم الضلال والشقاء.
ثم وصف المحسنين بالعلم التام، وهو اليقين الموجب للعمل والخوف من عقاب
اللّه، فيتركون معاصيه، ووصفهم بالعمل، وخص من العمل، عملين فاضلين:
الصلاة المشتملة على الإخلاص، ومناجاة اللّه تعالى، والتعبد العام للقلب
واللسان، والجوارح المعينة، على سائر الأعمال، والزكاة التي تزكي صاحبها
من الصفات الرذيلة، وتنفع أخاه المسلم، وتسد حاجته، ويبين بها أن العبد
يؤثر محبة اللّه على محبته للمال، فيخرجه محبوبه من المال، لما هو أحب
إليه، وهو طلب مرضاة اللّه.
فـ { أُولَئِكَ } هم المحسنون الجامعون
بين العلم التام، والعمل { عَلَى هُدًى }
أي: عظيم كما يفيده التنكير، وذلك الهدى حاصل لهم، وواصل إليهم
{ مِنْ رَبِّهِمْ } الذي لم يزل يربيهم
بالنعم; ويدفع عنهم النقم.
وهذا الهدى الذي أوصله إليهم، من تربيته الخاصة بأوليائه، وهو أفضل أنواع
التربية. { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
الذين أدركوا رضا ربهم، وثوابه الدنيوي والأخروي، وسلموا من سخطه وعقابه،
وذلك لسلوكهم طريق الفلاح، الذي لا طريق له غيرها.
ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن، المقبلين عليه، ذكر من أعرض عنه، ولم
يرفع به رأسا، وأنه عوقب على ذلك، بأن تعوض عنه كل باطل من القول، فترك
أعلى الأقوال، وأحسن الحديث، واستبدل به أسفل قول وأقبحه، فلذلك قال:
أي: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ } هو محروم
مخذول { يَشْتَرِي } أي: يختار ويرغب
رغبة من يبذل الثمن في الشيء. { لَهْوَ
الْحَدِيثِ } أي: الأحاديث الملهية للقلوب، الصادَّة لها عن أجلِّ
مطلوب. فدخل في هذا كل كلام محرم، وكل لغو، وباطل، وهذيان من الأقوال
المرغبة في الكفر، والفسوق، والعصيان، ومن أقوال الرادين على الحق،
المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن غيبة، ونميمة، وكذب، وشتم، وسب،
ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الماجريات الملهية، التي لا نفع فيها في دين
ولا دنيا.
فهذا الصنف من الناس، يشتري لهو الحديث، عن هدي الحديث
{ لِيُضِلَّ } الناس
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي: بعدما ضل
بفعله، أضل غيره، لأن الإضلال، ناشئ عن الضلال.
وإضلاله في هذا الحديث; صده عن الحديث النافع، والعمل النافع، والحق
المبين، والصراط المستقيم.
ولا يتم له هذا، حتى يقدح في الهدى والحق، ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر
بها، وبمن جاء بها، فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه، والقدح في
الحق، والاستهزاء به وبأهله، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه،
من القول الذي لا يميزه ذلك الضال، ولا يعرف حقيقته.
{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
بما ضلوا وأضلوا، واستهزءوا [بآيات اللّه] وكذبوا الحق الواضح.
ولهذا قال { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا } ليؤمن بها وينقاد لها، {
وَلَّى مُسْتَكْبِرًا } أي: أدبر إدبار مستكبر عنها، رادٍّ لها،
ولم تدخل قلبه ولا أثرت فيه، بل أدبر عنها {
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا } بل { كَأَنَّ
فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } أي: صمما لا تصل إليه الأصوات; فهذا لا
حيلة في هدايته.
{ فَبَشِّرْهُ }
بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم; وفي بشرته السوء والظلمة والغبرة.
{ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } مؤلم لقلبه;
ولبدنه; لا يقادر قدره; ولا يدرى بعظيم أمره، وهذه بشارة أهل الشر، فلا
نِعْمَتِ البشارة.
وأما بشارة أهل الخير فقال: { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } جمعوا بين عبادة الباطن
بالإيمان، والظاهر بالإسلام، والعمل الصالح.
{ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ }
بشارة لهم بما قدموه، وقرى لهم بما أسلفوه. {
خَالِدِينَ فِيهَا } أي: في جنات النعيم، نعيم القلب والروح،
والبدن.
{ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا }
لا يمكن أن يخلف، ولا يغير، ولا يتبدل. {
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كامل العزة، كامل الحكمة، من عزته
وحكمته، وفق من وفق، وخذل من خذل، بحسب ما اقتضاه علمه فيهم وحكمته.
يتلو تعالى على عباده، آثارا من آثار قدرته، وبدائع من بدائع حكمته،
ونعما من آثار رحمته، فقال: { خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ } السبع على عظمها، وسعتها، وكثافتها، وارتفاعها
الهائل. { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا }
أي: ليس لها عمد، ولو كان لها عمد لرئيت، وإنما استقرت واستمسكت، بقدرة
اللّه تعالى.
{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ }
أي: جبالا عظيمة، ركزها في أرجائها وأنحائها، لئلا
{ تَمِيدَ بِكُمْ } فلولا الجبال
الراسيات لمادت الأرض، ولما استقرت بساكنيها.
{ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ }
أي: نشر في الأرض الواسعة، من جميع أصناف الدواب، التي هي مسخرة لبني
آدم، ولمصالحهم، ومنافعهم. ولما بثها في الأرض، علم تعالى أنه لا بد لها
من رزق تعيش به، فأنزل من السماء ماء مباركا، {
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } المنظر، نافع
مبارك، فرتعت فيه الدواب المنبثة، وسكن إليه كل حيوان.
{ هَذَا }
أي: خلق العالم العلوي والسفلي، من جماد، وحيوان، وسَوْقِ أرزاق الخلق
إليهم { خَلق اللَّه } وحده لا شريك له،
كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين.
{ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ }
أي: الذين جعلتموهم له شركاء، تدعونهم وتعبدونهم، يلزم على هذا، أن يكون
لهم خلق كخلقه، ورزق كرزقه، فإن كان لهم شيء من ذلك فأرونيه، ليصح ما
ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة.
ومن المعلوم أنهم لا يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها، لأن جميع
المذكورات، قد أقروا أنها خلق اللّه وحده، ولا ثَمَّ شيء يعلم غيرها،
فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد.
ولكن عبادتهم إياها، عن غير علم وبصيرة، بل عن جهل وضلال، ولهذا قال:
{ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
أي: جَلِيٍّ واضح حيث عبدوا من لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة
ولا نشورا، وتركوا الإخلاص للخالق الرازق المالك لكل الأمور.
يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان، بالحكمة، وهي العلم
[بالحق] على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من
الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالما، ولا يكون حكيما.
وأما الحكمة، فهي مستلزمة للعلم، بل وللعمل، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم
النافع، والعمل الصالح.
ولما أعطاه اللّه هذه المنة العظيمة، أمره أن يشكره على ما أعطاه، ليبارك
له فيه، وليزيده من فضله، وأخبره أن شكر الشاكرين، يعود نفعه عليهم، وأن
من كفر فلم يشكر اللّه، عاد وبال ذلك عليه. والله غني [عنه] حميد فيما
يقدره ويقضيه، على من خالف أمره، فغناه تعالى، من لوازم ذاته، وكونه
حميدا في صفات كماله، حميدا في جميل صنعه، من لوازم ذاته، وكل واحد من
الوصفين، صفة كمال، واجتماع أحدهما إلى الآخر، زيادة كمال إلى كمال.
واختلف المفسرون، هل كان لقمان نبيا، أو عبدا صالحا؟ واللّه تعالى لم
يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة، وذكر بعض ما يدل على حكمته في وعظه لابنه،
فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال: {
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ }
أو قال له قولا به يعظه بالأمر، والنهي، المقرون بالترغيب والترهيب،
فأمره بالإخلاص، ونهاه عن الشرك، وبيَّن له السبب في ذلك فقال:
{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
ووجه كونه عظيما، أنه لا أفظع وأبشع ممن سَوَّى المخلوق من تراب، بمالك
الرقاب، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئا، بمن له الأمر كله، وسوَّى
الناقص الفقير من جميع الوجوه، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه،
وسوَّى من لم ينعم بمثقال ذرة [من النعم] بالذي ما بالخلق من نعمة في
دينهم، ودنياهم وأخراهم، وقلوبهم، وأبدانهم، إلا منه، ولا يصرف السوء إلا
هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟؟!
وهل أعظم ظلما ممن خلقه اللّه لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة،
[فجعلها في أخس المراتب] جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئا، فظلم نفسه ظلما
كبيرا.
ولما أمر بالقيام بحقه، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد، أمر
بالقيام بحق الوالدين فقال: { وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ } أي: عهدنا إليه، وجعلناه وصية عنده، سنسأله عن
القيام بها، وهل حفظها أم لا؟ فوصيناه {
بِوَالِدَيْهِ } وقلنا له: { اشْكُرْ
لِي } بالقيام بعبوديتي، وأداء حقوقي، وأن لا تستعين بنعمي على
معصيتي. { وَلِوَالِدَيْكَ } بالإحسان
إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما،
[وإكرامهما] وإجلالهما، والقيام بمئونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل
وجه، بالقول والفعل.
فوصيناه بهذه الوصية، وأخبرناه أن { إِلَيَّ
الْمَصِيرُ } أي: سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك، وكلفك بهذه
الحقوق، فيسألك: هل قمت بها، فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها، فيعاقبك
العقاب الوبيل؟.
ثم ذكر السبب الموجب لبر الوالدين في الأم، فقال:
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ }
أي: مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق، من حين يكون نطفة، من الوحم،
والمرض، والضعف، والثقل، وتغير الحال، ثم وجع الولادة، ذلك الوجع الشديد.
ثم { فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } وهو
ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها، أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه
الشدائد، مع شدة الحب، أن يؤكد على ولده، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه؟
{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ }
أي: اجتهد والداك { عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } ولا تظن أن هذا داخل
في الإحسان إليهما، لأن حق اللّه، مقدم على حق كل أحد، و "لا طاعة
لمخلوق، في معصية الخالق"
ولم يقل: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال:
{ فَلَا تُطِعْهُمَا } أي: بالشرك، وأما
برهما، فاستمر عليه، ولهذا قال: {
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } أي: صحبة إحسان
إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما.
واتباع سبيلهم، أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى اللّه، التي هي انجذاب
دواعي القلب وإراداته إلى اللّه، ثم يتبعها سعي البدن، فيما يرضي اللّه،
ويقرب منه.
{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ }
الطائع والعاصي، والمنيب، وغيره {
فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فلا يخفى على اللّه
من أعمالهم خافية.
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ }
التي هي أصغر الأشياء وأحقرها، { فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ } أي في وسطها { أَوْ فِي
السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ } في أي جهة من جهاتهما
{ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } لسعة علمه،
وتمام خبرته وكمال قدرته، ولهذا قال: { إِنَّ
اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي: لطف في علمه وخبرته، حتى اطلع على
البواطن والأسرار، وخفايا القفار والبحار.
والمقصود من هذا، الحث على مراقبة اللّه، والعمل بطاعته، مهما أمكن،
والترهيب من عمل القبيح، قَلَّ أو كَثُرَ.
{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ }
حثه عليها، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية،
{ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وذلك
يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه.
والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلا به، من الرفق،
والصبر، وقد صرح به في قوله: { وَاصْبِرْ عَلَى
مَا أَصَابَكَ } ومن كونه فاعلا لما يأمر به، كافًّا لما ينهى
عنه، فتضمن هذا، تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، وتكميل غيره بذلك،
بأمره ونهيه.
ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على
النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال: { وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ } الذي وعظ به لقمان ابنه
{ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أي: من
الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم.
{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ }
أي: امش متواضعا مستكينا، لا مَشْيَ البطر والتكبر، ولا مشي التماوت.
{ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ }
أدبا مع الناس ومع اللّه، { إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْوَاتِ } أي أفظعها وأبشعها {
لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة،
لما اختص بذلك الحمار، الذي قد علمت خسته وبلادته.
وهذه الوصايا، التي وصى بها لقمان لابنه، تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما
لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها، إن كانت أمرا، وإلى
تركها إن كانت نهيا.
وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة، أنها العلم بالأحكام، وحِكَمِها
ومناسباتها، فأمره بأصل الدين، وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبيَّن له
الموجب لتركه، وأمره ببر الوالدين، وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره
بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما، ما لم يأمرا
بمعصية، ومع ذلك فلا يعقهما، بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا
جاهداه على الشرك. وأمره بمراقبة اللّه، وخوَّفه القدوم عليه، وأنه لا
يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر، إلا أتى بها.
ونهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر، والمرح، وأمره
بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.
وأمره بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وبالصبر اللذين
يسهل بهما كل أمر، كما قال تعالى: فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا، أن يكون
مخصوصا بالحكمة، مشهورا بها. ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده،
أن قص عليهم من حكمته، ما يكون لهم به أسوة حسنة.
يمتن تعالى على عباده بنعمه، ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها; وعدم الغفلة
عنها فقال: { أَلَمْ تَرَوْا } أي:
تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم وقلوبكم، { أَنَّ
اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } من الشمس والقمر
والنجوم، كلها مسخرات لنفع العباد.
{ وَمَا فِي الْأَرْضِ }
من الحيوانات والأشجار والزروع، والأنهار والمعادن ونحوها كما قال تعالى:
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا }
{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ }
أي: عمّكم وغمركم نعمه الظاهرة والباطنة التي نعلم بها; والتي تخفى
علينا، نعم الدنيا، ونعم الدين، حصول المنافع، ودفع المضار، فوظيفتكم أن
تقوموا بشكر هذه النعم; بمحبة المنعم والخضوع له; وصرفها في الاستعانة
على طاعته، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته.
{ و }
لكن مع توالي هذه النعم; { مِنَ النَّاسِ مَنْ
} لم يشكرها; بل كفرها; وكفر بمن أنعم بها; وجحد الحق الذي أنزل
به كتبه; وأرسل به رسله، فجعل { يُجَادِلُ فِي
اللَّهِ } أي: يجادل عن الباطل; ليدحض به الحق; ويدفع به ما جاء
به الرسول من الأمر بعبادة اللّه وحده، وهذا المجادل على غير بصيرة، فليس
جداله عن علم، فيترك وشأنه، ويسمح له في الكلام
{ وَلَا هُدًى } يقتدي به بالمهتدين {
وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } [غير مبين للحق فلا معقول ولا منقول ولا
اقتداء بالمهتدين] وإنما جداله في اللّه مبني على تقليد آباء غير
مهتدين، بل ضالين مضلين.
ولهذا قال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } على أيدي رسله، فإنه الحق، وبينت لهم
أدلته الظاهرة { قَالُوا } معارضين ذلك:
{ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا } فلا نترك ما وجدنا عليه آباءنا لقول أحد كائنا من
كان.
قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم: {
أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }
فاستجاب له آباؤهم، ومشوا خلفه، وصاروا من تلاميذ الشيطان، واستولت عليهم
الحيرة.
فهل هذا موجب لاتباعهم لهم ومشيهم على طريقتهم، أم ذلك يرهبهم من سلوك
سبيلهم، وينادي على ضلالهم، وضلال من اتبعهم.
وليس دعوة الشيطان لآبائهم ولهم، محبة لهم ومودة، وإنما ذلك عداوة لهم
ومكر بهم، وبالحقيقة أتباعه من أعدائه، الذين تمكن منهم وظفر بهم، وقرت
عينه باستحقاقهم عذاب السعير، بقبول دعوته.
{ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ }
أي: يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه.
{ وَهُوَ مُحْسِنٌ } في ذلك الإسلام بأن
كان عمله مشروعا، قد اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.
أو: ومن يسلم وجهه إلى اللّه، بفعل جميع العبادات، وهو محسن فيها، بأن
يعبد اللّه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنه يراه.
أو ومن يسلم وجهه إلى اللّه، بالقيام بحقوقه، وهو محسن إلى عباد اللّه،
قائم بحقوقهم.
والمعاني متلازمة، لا فرق بينها إلا من جهة [اختلاف] مورد اللفظتين،
وإلا فكلها متفقة على القيام بجميع شرائع الدين، على وجه تقبل به وتكمل،
فمن فعل ذلك فقد أسلم و { اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي: بالعروة التي من تمسك بها، توثق
ونجا، وسلم من الهلاك، وفاز بكل خير.
ومن لم يسلم وجهه للّه، أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى، وإذا لم
يستمسك بالعروة الوثقى لم يكن ثَمَّ إلا الهلاك والبوار.
{ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }
أي: رجوعها وموئلها ومنتهاها، فيحكم في عباده، ويجازيهم بما آلت إليه
أعمالهم، ووصلت إليه عواقبهم، فليستعدوا لذلك الأمر.
{ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ }
لأنك أديت ما عليك، من الدعوة والبلاغ، فإذا لم يهتد، فقد وجب أجرك على
اللّه، ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه، لأنه لو كان فيه خير، لهداه
اللّه.
ولا تحزن أيضا، على كونهم تجرأوا عليك بالعداوة، ونابذوك المحاربة،
واستمروا على غيهم وكفرهم، ولا تتحرق عليهم، بسبب أنهم ما بودروا
بالعذاب.
فإن { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ
بِمَا عَمِلُوا } من كفرهم وعداوتهم، وسعيهم في إطفاء نور اللّه
وأذى رسله.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
التي ما نطق بها الناطقون، فكيف بما ظهر، وكان شهادة؟"
{ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا }
في الدنيا، ليزداد إثمهم، ويتوفر عذابهم، {
ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } أي: [نلجئهم] {
إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي: انتهى في عظمه وكبره، وفظاعته،
وألمه، وشدته.
أي: ولئن سألت هؤلاء المشركين المكذبين بالحق {
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } لعلموا أن أصنامهم، ما
خلقت شيئا من ذلك ولبادروا بقولهم الله الذي خلقهما وحده.
فـ { قُلِ } لهم ملزما لهم، ومحتجا
عليهم بما أقروا به، على ما أنكروا: {
الْحَمْدُ لِلَّهِ } الذي بيَّن النور، وأظهر الاستدلال عليكم من
أنفسكم، فلو كانوا يعلمون، لجزموا أن المنفرد بالخلق والتدبير، هو الذي
يفرد بالعبادة والتوحيد.
ولكن { أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
فلذلك أشركوا به غيره، ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه، على وجه الحيرة
والشك، لا على وجه البصيرة، ثم ذكر في هاتين الآيتين نموذجا من سعة
أوصافه، ليدعو عباده إلى معرفته، ومحبته، وإخلاص الدين له.
فذكر عموم ملكه، وأن جميع ما في السماوات والأرض - وهذا شامل لجميع
العالم العلوي والسفلي - أنه ملكه، يتصرف فيهم بأحكام الملك القدرية،
وأحكامه الأمرية، وأحكامه الجزائية، فكلهم عييد مماليك، مدبرون مسخرون،
ليس لهم من الملك شيء، وأنه واسع الغنى، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه أحد
من الخلق. { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ
وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ }
وأن أعمال النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، لا تنفع اللّه شيئا
وإنما تنفع عامليها، واللّه غني عنهم، وعن أعمالهم، ومن غناه، أن أغناهم
وأقناهم في دنياهم وأخراهم.
ثم أخبر تعالى عن سعة حمده، وأن حمده من لوازم ذاته، فلا يكون إلا حميدا
من جميع الوجوه، فهو حميد في ذاته، وهو حميد في صفاته، فكل صفة من صفاته،
يستحق عليها أكمل حمد وأتمه، لكونها صفات عظمة وكمال، وجميع ما فعله
وخلقه يحمد عليه، وجميع ما أمر به ونهى عنه يحمد عليه، وجميع ما حكم به
في العباد وبين العباد، في الدنيا والآخرة، يحمد عليه.
ثم أخبر عن سعة كلامه وعظمة قوله، بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ، وتنبهر
له العقول، وتحير فيه الأفئدة، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر،
فقال: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } يكتب بها {
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } مدادا
يستمد بها، لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد، و لم تنفد
{ كَلِمَاتُ اللَّهِ } تعالى، وهذا ليس
مبالغة لا حقيقة له، بل لما علم تبارك وتعالى، أن العقول تتقاصر عن
الإحاطة ببعض صفاته، وعلم تعالى أن معرفته لعباده، أفضل نعمة، أنعم بها
عليهم، وأجل منقبة حصلوها، وهي لا تمكن على وجهها، ولكن ما لا يدرك كله،
لا يترك كله، فنبههم تعالى تنبيها تستنير به قلوبهم، وتنشرح له صدورهم،
ويستدلون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه، ويقولون كما قال أفضلهم
وأعلمهم بربه: "لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" وإلا، فالأمر
أجل من ذلك وأعظم.
وهذا التمثيل من باب تقريب المعنى، الذي لا يطاق الوصول إليه إلى الأفهام
والأذهان، وإلا فالأشجار، وإن تضاعفت على ما ذكر، أضعافا كثيرة، والبحور
لو امتدت بأضعاف مضاعفة، فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها، لكونها مخلوقة.
وأما كلام اللّه تعالى، فلا يتصور نفاده، بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي،
على أنه لا نفاد له ولا منتهى، وكل شيء ينتهي إلا الباري وصفاته
{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى }
وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته، وأنه كل ما فرضه الذهن من
الأزمان السابقة، مهما تسلسل الفرض والتقدير، فهو تعالى قبل ذلك إلى غير
نهاية، وأنه مهما فرضه الذهن والعقل، من الأزمان المتأخرة، وتسلسل الفرض
والتقدير، وساعد على ذلك من ساعد، بقلبه ولسانه، فاللّه تعالى بعد ذلك
إلى غير غاية ولا نهاية.
واللّه في جميع الأوقات يحكم، ويتكلم، ويقول، ويفعل كيف أراد، وإذا أراد
لا مانع له من شيء من أقواله وأفعاله، فإذا تصور العقل ذلك، عرف أن المثل
الذي ضربه اللّه لكلامه، ليدرك العباد شيئا منه، وإلا، فالأمر أعظم وأجل.
ثم ذكر جلالة عزته وكمال حكمته فقال: { إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: له العزة جميعا، الذي ما في العالم
العلوي والسفلي من القوة إلا منه، أعطاها للخلق، فلا حول ولا قوة إلا به،
وبعزته قهر الخلق كلهم، وتصرف فيهم، ودبرهم، وبحكمته خلق الخلق، وابتدأه
بالحكمة، وجعل غايته والمقصود منه الحكمة، وكذلك الأمر والنهي وجد
بالحكمة، وكانت غايته المقصودة الحكمة، فهو الحكيم في خلقه وأمره.
ثم ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه لا يمكن أن يتصورها العقل فقال:
{ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهذا شيء يحير العقول، إن خلق جميع الخلق -
على كثرتهم وبعثهم بعد موتهم، بعد تفرقهم في لمحة واحدة - كخلقه نفسا
واحدة، فلا وجه لاستبعاد البعث والنشور، والجزاء على الأعمال، إلا الجهل
بعظمة اللّه وقوة قدرته.
ثم ذكر عموم سمعه لجميع المسموعات، وبصره لجميع المبصرات فقال:
{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
وهذا فيه أيضا، انفراده بالتصرف والتدبير، وسعة تصرفه بإيلاج الليل في
النهار، وإيلاج النهار في الليل، أي: إدخال أحدهما على الآخر، فإذا دخل
أحدهما، ذهب الآخر.
وتسخيره للشمس والقمر، يجريان بتدبير ونظام، لم يختل منذ خلقهما، ليقيم
بذلك من مصالح العباد ومنافعهم، في دينهم ودنياهم، ما به يعتبرون
وينتفعون.
و { كُلّ } منهما
{ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } إذا
جاء ذلك الأجل، انقطع جريانهما، وتعطل سلطانهما، وذلك في يوم القيامة،
حين تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنتهي دار الدنيا، وتبتدئ الدار الآخرة.
{ وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ }
من خير وشر { خَبِيرٌ } لا يخفى عليه
شيء من ذلك، وسيجازيكم على تلك الأعمال، بالثواب للمطيعين، والعقاب
للعاصين.
و { ذَلِكَ } الذي بين لكم من عظمته
وصفاته، ما بيَّن { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ } في ذاته وفي صفاته، ودينه حق، ورسله حق، ووعده حق،
ووعيده حق، وعبادته هي الحق.
{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ }
في ذاته وصفاته، فلولا إيجاد اللّه له لما وجد، ولولا إمداده لَمَا
بَقِيَ، فإذا كان باطلا، كانت عبادته أبطل وأبطل.
{ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ }
بذاته، فوق جميع مخلوقاته، الذي علت صفاته، أن يقاس بها صفات أحد من
الخلق، وعلا على الخلق فقهرهم { الْكَبِيرُ }
الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته، وله الكبرياء في قلوب أهل السماء
والأرض.
أي: ألم تر من آثار قدرته ورحمته، وعنايته بعباده، أن سخر البحر، تجري
فيه الفلك، بأمره القدري [ولطفه وإحسانه، {
لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ } ففيها الانتفاع والاعتبار]
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
فهم المنتفعون بالآيات، صبار على الضراء، شكور على السراء، صبار على طاعة
اللّه وعن معصيته، وعلى أقداره، شكور للّه، على نعمه الدينية والدنيوية.
وذكر تعالى حال الناس، عند ركوبهم البحر، وغشيان الأمواج كالظل فوقهم،
أنهم يخلصون الدعاء [للّه] والعبادة: {
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ } انقسموا فريقين:
فرقة مقتصدة، أي: لم تقم بشكر اللّه على وجه الكمال، بل هم مذنبون ظالمون
لأنفسهم.
وفرقة كافرة بنعمة اللّه، جاحدة لها، ولهذا قال:
{ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ
خَتَّارٍ } أي غدار، ومن غدره، أنه عاهد ربه، لئن أنجيتنا من
البحر وشدته، لنكونن من الشاكرين، فغدر ولم يف بذلك،
{ كَفُور } بنعم اللّه. فهل يليق بمن
نجاهم اللّه من هذه الشدة، إلا القيام التام بشكر نعم اللّه؟
يأمر تعالى الناس بتقواه، التي هي امتثال أوامره، وترك زواجره، ويستلفتهم
لخشية يوم القيامة، اليوم الشديد، الذي فيه كل أحد لا يهمه إلا نفسه فـ
{ لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا
مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } لا يزيد في حسناته
ولا ينقص من سيئاته، قد تم على كل عبد عمله، وتحقق عليه جزاؤه.
فلفت النظر في هذا لهذا اليوم المهيل، مما يقوي العبد ويسهِّل عليه تقوى
اللّه، وهذا من رحمة اللّه بالعباد، يأمرهم بتقواه التي فيها سعادتهم،
ويعدهم عليها الثواب، ويحذرهم من العقاب، ويزعجهم إليه بالمواعظ
والمخوفات، فلك الحمد يا رب العالمين.
{ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ }
فلا تمتروا فيه، ولا تعملوا عمل غير المصدق، فلهذا قال:
{ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
} بزينتها وزخارفها وما فيها من الفتن والمحن.
{ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }
الذي هو الشيطان، الذي ما زال يخدع الإنسان ولا يغفل عنه في جميع
الأوقات، فإن للّه على عباده حقا، وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه بأعمالهم،
وهل وفوا حقه أم قصروا فيه.
وهذا أمر يجب الاهتمام به، وأن يجعله العبد نصب عينيه، ورأس مال تجارته،
التي يسعى إليها.
ومن أعظم العوائق عنه والقواطع دونه، الدنيا الفتانة، والشيطان الموسوس
الْمُسَوِّل، فنهى تعالى عباده، أن تغرهم الدنيا، أو يغرهم باللّه الغرور
{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا }
قد تقرر أن اللّه تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة، والظواهر والبواطن،
وقد يطلع اللّه عباده على كثير من الأمور الغيبية، وهذه [الأمور]
الخمسة، من الأمور التي طوى علمها عن جميع المخلوقات، فلا يعلمها نبي
مرسل، ولا ملك مقرب، فضلا عن غيرهما، فقال: {
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي: يعلم متى مرساها،
كما قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي
لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً } الآية.
{ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ }
أي: هو المنفرد بإنزاله، وعلم وقت نزوله.
{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ }
فهو الذي أنشأ ما فيها، وعلم ما هو، هل هو ذكر أم أنثى، ولهذا يسأل الملك
الموكل بالأرحام ربه: هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي اللّه ما يشاء.
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا }
من كسب دينها ودنياها، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } بل اللّه تعالى، هو المختص بعلم ذلك
جميعه.
ولما خصص هذه الأشياء، عمم علمه بجميع الأشياء فقال:
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } محيط
بالظواهر والبواطن، والخفايا والخبايا، والسرائر، ومن حكمته التامة، أن
أخفى علم هذه الخمسة عن العباد، لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من
تدبر ذلك.
تم تفسير سورة لقمان بفضل اللّه وعونه، والحمد للّه.