28-
تفسير سورة القصص
عدد آياتها 88
(
آية
1-51
)
وهي مكية
{ 1-51 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ } إلى آخر القصة
{ تِلْكَ } الآيات المستحقة للتعظيم
والتفخيم { آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
} لكل أمر يحتاج إليه العباد، من معرفة ربهم، ومعرفة حقوقه،
ومعرفة أوليائه وأعدائه، ومعرفة وقائعه وأيامه، ومعرفة ثواب الأعمال،
وجزاء العمال، فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين، وجلَّاها للعباد،
ووضحها.
ومن جملة ما أبان، قصة موسى وفرعون، فإنه أبداها، وأعادها في عدة مواضع،
وبسطها في هذا الموضع فقال: { نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } فإن
نبأهما غريب، وخبرهما عجيب.
{ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإليهم يساق
الخطاب، ويوجه الكلام، حيث إن معهم من الإيمان، ما يقبلون به على تدبُّر
ذلك، وتلقِّيه بالقبول والاهتداء بمواقع العبر، ويزدادون به إيمانا
ويقينا، وخيرا إلى خيرهم، وأما من عداهم، فلا يستفيدون منه إلا إقامة
الحجة عليهم، وصانه اللّه عنهم، وجعل بينهم وبينه حجابا أن يفقهوه.
فأول هذه القصة { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي
الْأَرْضِ } في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته، فصار من أهل العلو
فيها، لا من الأعلين فيها.
{ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } أي:
طوائف متفرقة، يتصرف فيهم بشهوته، وينفذ فيهم ما أراد من قهره، وسطوته.
{ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ }
وتلك الطائفة، هم بنو إسرائيل، الذين فضلهم اللّه على العالمين، الذين
ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم، ولكنه استضعفهم، بحيث إنه رأى أنهم لا منعة
لهم تمنعهم مما أراده فيهم، فصار لا يبالي بهم، ولا يهتم بشأنهم، وبلغت
به الحال إلى أنه { يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } خوفا من أن يكثروا، فيغمروه في
بلاده، ويصير لهم الملك.
{ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }
الذين لا قصد لهم في إصلاح الدين، ولا إصلاح الدنيا، وهذا من إفساده في
الأرض.
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ } بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف،
ونهلك من قاومهم، ونخذل من ناوأهم. {
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } في الدين، وذلك لا يحصل مع استضعاف،
بل لا بد من تمكين في الأرض، وقدرة تامة، {
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } للأرض، الذين لهم العاقبة في
الدنيا قبل الآخرة.
{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ }
فهذه الأمور كلها، قد تعلقت بها إرادة اللّه، وجرت بها مشيئته، {
و } كذلك نريد أن { نُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ } وزيره { وَجُنُودَهُمَا
} التي بها صالوا وجالوا، وعلوا وبغوا {
مِنْهُمْ } أي: من هذه الطائفة المستضعفة. {
مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } من إخراجهم من ديارهم، ولذلك كانوا
يسعون في قمعهم، وكسر شوكتهم، وتقتيل أبنائهم، الذين هم محل ذلك، فكل هذا
قد أراده اللّه، وإذا أراد أمرا سهل أسبابه، ونهج طرقه، وهذا الأمر كذلك،
فإنه قدر وأجرى من الأسباب -التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه- ما
هو سبب موصل إلى هذا المقصود.
فأول ذلك، لما أوجد اللّه رسوله موسى، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب
الإسرائيلي على يديه وبسببه، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة، التي
يذبحون بها الأبناء، أوحى إلى أمه أن ترضعه، ويمكث عندها.
{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } بأن أحسست
أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم، {
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } أي نيل مصر، في وسط تابوت مغلق، {
وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ } فبشرها بأنه سيرده عليها، وأنه سيكبر ويسلم
من كيدهم، ويجعله اللّه رسولا.
وهذا من أعظم البشائر الجليلة، وتقديم هذه البشارة لأم موسى، ليطمئن
قلبها، ويسكن روعها، فإنها خافت عليه، وفعلت ما أمرت به، ألقته في اليم،
فساقه اللّه تعالى.
{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } فصار
من لقطهم، وهم الذين باشروا وجدانه، {
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } أي: لتكون العاقبة والمآل
من هذا الالتقاط، أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم، بسبب أن الحذر لا ينفع
من القدر، وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل، قيض اللّه أن يكون زعيمهم،
يتربى تحت أيديهم، وعلى نظرهم، وبكفالتهم.
وعند التدبر والتأمل، تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل، ودفع كثير
من الأمور الفادحة بهم، ومنع كثير من التعديات قبل رسالته، بحيث إنه صار
من كبار المملكة.
وبالطبع، إنه لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا، وهو هو ذو
الهمة العالية والغيرة المتوقدة، ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف
-الذي بلغ بهم الذل والإهانة إلى ما قص اللّه علينا بعضه - أن صار بعض
أفراده، ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض، كما سيأتي بيانه.
وهذا مقدمة للظهور، فإن اللّه تعالى من سنته الجارية، أن جعل الأمور تمشي
على التدريج شيئا فشيئا، ولا تأتي دفعة واحدة.
وقوله: { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } أي: فأردنا أن نعاقبهم على
خطئهم ونكيد هم، جزاء على مكرهم وكيدهم.
فلما التقطه آل فرعون، حنَّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة
المؤمنة " آسية " بنت مزاحم " وَقَالَتِ " هذا الولد {
قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ } أي: أبقه لنا،
لِتقرَّ به أعيننا، ونستر به في حياتنا.
{ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَدًا } أي: لا يخلو، إما أن يكون بمنزلة الخدم، الذين يسعون في
نفعنا وخدمتنا، أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك، نجعله ولدا لنا، ونكرمه،
ونجله.
فقدَّر اللّه تعالى، أنه نفع امرأة فرعون، التي قالت تلك المقالة، فإنه
لما صار قرة عين لها، وأحبته حبا شديدا، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق
حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله، فبادرت إلى الإسلام والإيمان به، رضي اللّه
عنها وأرضاها.
قال اللّه تعالى هذه المراجعات [والمقاولات] في شأن موسى: {
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } ما جرى به القلم، ومضى به القدر، من
وصوله إلى ما وصل إليه، وهذا من لطفه تعالى، فإنهم لو شعروا، لكان لهم
وله، شأن آخر.
ولما فقدت موسى أمه، حزنت حزنا شديدا، وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي
أزعجها، على مقتضى الحالة البشرية، مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن
والخوف، ووعدها برده.
{ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي:
بما في قلبها { لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى
قَلْبِهَا } فثبتناها، فصبرت، ولم تبد به. {
لِتَكُونَ } بذلك الصبر والثبات { مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ } فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت، ازداد
بذلك إيمانه، ودل ذلك، على أن استمرار الجزع مع العبد، دليل على ضعف
إيمانه.
{ وَقَالَتِ } أم موسى {
لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي: اذهبي [فقصي الأثر عن أخيك وابحثي عنه
من غير أن يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه] {
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أي: أبصرته
على وجه، كأنها مارة لا قصد لها فيه.
وهذا من تمام الحزم والحذر، فإنها لو أبصرته، وجاءت إليهم قاصدة، لظنوا
بها أنها هي التي ألقته، فربما عزموا على ذبحه، عقوبة لأهله.
ومن لطف اللّه بموسى وأمه، أن منعه من قبول ثدي امرأة، فأخرجوه إلى السوق
رحمة به، ولعل أحدا يطلبه، فجاءت أخته، وهو بتلك الحال {
فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ
وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ }
وهذا جُلُّ غرضهم، فإنهم أحبوه حبا شديدا، وقد منعه اللّه من المراضع
فخافوا أن يموت، فلما قالت لهم أخته تلك المقالة، المشتملة على الترغيب،
في أهل هذا البيت، بتمام حفظه وكفالته والنصح له، بادروا إلى إجابتها،
فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت.
{ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ } كما
وعدناها بذلك { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا
تَحْزَنَ } بحيث إنه تربى عندها على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة،
تفرح به، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك، {
وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } فأريناها بعض ما
وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، ويزداد إيمانها، ولتعلم أنه سيحصل
وعد اللّه في حفظه ورسالته، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } فإذا رأوا السبب متشوشا، شوش ذلك
إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات
الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة، فاستمر موسى عليه
الصلاة والسلام عند آل فرعون، يتربى في سلطانهم، ويركب مراكبهم، ويلبس
ملابسهم، وأمه بذلك مطمئنة، قد استقر أنها أمه من الرضاع، ولم يستنكر
ملازمته إياها وحنوها عليها.
وتأمل هذا اللطف، وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه، وتيسير الأمر،
الذي صار به التعلق بينه وبينها، الذي بان للناس أنه هو الرضاع، الذي
بسببه يسميها أُمَّا، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله، صدقا
وحقا.
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } من القوة
والعقل واللب، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب، {
وَاسْتَوَى } كملت فيه تلك الأمور {
آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أي: حكما يعرف به الأحكام
الشرعية، ويحكم به بين الناس، وعلما كثيرا.
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه، نعطيهم علما وحكما بحسب إحسانهم،
ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام.
{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ
مِنْ أَهْلِهَا } إما وقت القائلة، أو غير ذلك من الأوقات التي
بها يغفلون عن الانتشار. { فَوَجَدَ فِيهَا
رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ } أي: يتخاصمان ويتضاربان {
هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ } أي: من بني إسرائيل {
وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ } القبط.
{ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى
الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } لأنه قد اشتهر، وعلم الناس أنه من بني
إسرائيل، واستغاثته لموسى، دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغا يخاف
منه، ويرجى من بيت المملكة والسلطان.
{ فَوَكَزَهُ مُوسَى } أي: وكز الذي من
عدوه، استجابة لاستغاثة الإسرائيلي، { فَقَضَى
عَلَيْهِ } أي: أماته من تلك الوكزة، لشدتها وقوة موسى.
فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه، و {
قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي: من تزيينه ووسوسته، {
إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } فلذلك أجريت ما أجريت بسبب
عداوته البينة، وحرصه على الإضلال.
ثم استغفر ربه { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
} خصوصا للمخبتين، المبادرين للإنابة والتوبة، كما جرى من موسى
عليه السلام.
فـ { قَالَ } موسى {
رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } بالتوبة والمغفرة، والنعم
الكثيرة، { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا }
أي: معينا ومساعدا { لِلْمُجْرِمِينَ }
أي: لا أعين أحدا على معصية، وهذا وعد من موسى عليه السلام، بسبب منة
اللّه عليه، أن لا يعين مجرما، كما فعل في قتل القبطي. وهذا يفيد أن
النعم تقتضي من العبد فعل الخير، وترك الشر.
{ فـ } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه
{ أَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ } هل يشعر به آل فرعون، أم لا؟ وإنما خاف، لأنه قد
علم، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من بني إسرائيل.
فبينما هو على تلك الحال { فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ } على عدوه {
يَسْتَصْرِخُهُ } على قبطي آخر. { قَالَ
لَهُ مُوسَى } موبخا له على حاله {
إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } أي: بين الغواية، ظاهر الجراءة.
{ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ
} موسى { بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا
} أي: له وللمخاصم المستصرخ، أي: لم يزل اللجاج بين القبطي
والإسرائيلي، وهو يستغيث بموسى، فأخذته الحمية، حتى هم أن يبطش بالقبطي،
{ قَالَ } له القبطي زاجرا له عن قتله:
{ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ
نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي
الْأَرْضِ } لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض، قتل النفس بغير
حق.
{ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْمُصْلِحِينَ } وإلا، فلو أردت الإصلاح لحلت بيني وبينه من غير
قتل أحد، فانكف موسى عن قتله، وارعوى لوعظه وزجره، وشاع الخبر بما جرى من
موسى في هاتين القضيتين، حتى تراود ملأ فرعون، وفرعون على قتله، وتشاوروا
على ذلك.
وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح، وبادرهم إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه
رَأْيُ ملئهم. فقال: { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى } أي: ركضا على قدميه من نصحه
لموسى، وخوفه أن يوقعوا به، قبل أن يشعر، فـ {
قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُون } أي: يتشاورون
فيك { لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } عن
المدينة { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
} فامتثل نصحه.
{ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ
} أن يوقع به القتل، ودعا اللّه، و {
قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فإنه قد تاب
من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل، فَتَوعُّدُهُمْ له ظلم منهم
وجراءة.
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ
} أي: قاصدا بوجهه مدين، وهو جنوبي فلسطين، حيث لا ملك لفرعون، {
قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي:
وسط الطريق المختصر، الموصل إليها بسهولة ورفق، فهداه اللّه سواء السبيل،
فوصل إلى مدين.
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } مواشيهم، وكانوا أهل
ماشية كثيرة { وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ
} أي: دون تلك الأمة { امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ
} غنمهما عن حياض الناس، لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم، وعدم
مروءتهم عن السقي لهما.
{ قَالَ } لهما موسى {
مَا خَطْبُكُمَا } أي: ما شأنكما بهذه الحالة، {
قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } أي: قد جرت
العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم، فإذا خلا لنا الجو
سقينا، { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }
أي: لا قوة له على السقي، فليس فينا قوة، نقتدر بها، ولا لنا رجال
يزاحمون الرعاء.
فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما { فَسَقَى
لَهُمَا } غير طالب منهما الأجرة، ولا له قصد غير وجه اللّه
تعالى، فلما سقى لهما، وكان ذلك وقت شدة حر، وسط النهار، بدليل قوله: {
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } مستريحا لذلك الظلال بعد التعب.
{ فَقَالَ } في تلك الحالة، مسترزقا ربه
{ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره
لي. وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال،
فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا. وأما المرأتان، فذهبتا إلى
أبيهما، وأخبرتاه بما جرى.
فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى، فجاءته {
تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } وهذا يدل على كرم عنصرها، وخلقها
الحسن، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة، وخصوصا في النساء.
ويدل على أن موسى عليه السلام، لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الأجير
والخادم الذي لا يستحى منه عادة، وإنما هو عزيز النفس، رأت من حسن خلقه
ومكارم أخلاقه، ما أوجب لها الحياء منه، فـ {
قَالَتِ } له: { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي: لا لِيمُنَّ عليك،
بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان، وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك،
فأجابها موسى.
{ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ
} من ابتداء السبب الموجب لهربه، إلى أن وصل إليه {
قَالَ } مسكنا روعه، جابرا قلبه: { لَا
تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي: ليذهب خوفك
وروعك، فإن اللّه نجاك منهم، حيث وصلت إلى هذا المحل، الذي ليس لهم عليه
سلطان.
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } أي: إحدى
ابنتيه { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ }
أي: اجعله أجيرا عندك، يرعى الغنم ويسقيها، {
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } أي: إن
موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر، من
جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم
الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا،
بإجارة أو غيرها.
فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن
العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي
لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في
حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده [بذلك] وجه اللّه تعالى.
{ قَالَ } صاحب مدين لموسى {
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي } أي تصير أجيرا عندي {
ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أي: ثماني سنين. {
فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ } تبرع منك، لا شيء
واجب عليك. { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ
عَلَيْكَ } فأحتم عشر السنين، أو ما أريد أن أستأجرك لأكلفك
أعمالا شاقة، وإنما استأجرك لعمل سهل يسير لا مشقة فيه {
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } فرغبه في
سهولة العمل، وفي حسن المعاملة، وهذا يدل على أن الرجل الصالح، ينبغي له
أن يحسن خلقه مهما أمكنه، وأن الذي يطلب منه، أبلغ من غيره.
فـ { قَالَ } موسى عليه السلام -مجيبا
له فيما طلبه منه-: { ذَلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ } أي: هذا الشرط، الذي أنت ذكرت، رضيت به، وقد تم فيما
بيني وبينك. { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ
فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ } سواء قضيت الثماني الواجبة، أم تبرعت
بالزائد عليها { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ } حافظ يراقبنا، ويعلم ما تعاقدنا عليه.
وهذا الرجل، أبو المرأتين، صاحب مدين، ليس بشعيب النبي المعروف، كما
اشتهر عند كثير من الناس، فإن هذا، قول لم يدل عليه دليل، وغاية ما يكون،
أن شعيبا عليه السلام، قد كانت بلده مدين، وهذه القضية جرت في مدين، فأين
الملازمة بين الأمرين؟
وأيضا، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب، فكيف بشخصه؟" ولو كان ذلك
الرجل شعيبا، لذكره اللّه تعالى، ولسمته المرأتان، وأيضا فإن شعيبا عليه
الصلاة والسلام، قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه، ولم يبق إلا من آمن
به، وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم، بمنعهما عن الماء،
وصد ماشيتهما، حتى يأتيهما رجل غريب، فيحسن إليهما، ويسقي ماشيتهما، وما
كان شعيب، ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له، وهو أفضل منه وأعلى
درجة، والله أعلم، [إلا أن يقال: هذا قبل نبوة موسى فلا منافاة وعلى كل
حال لا يعتمد على أنه شعيب النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه
وسلم]
{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ }
يحتمل أنه قضى الأجل الواجب، أو الزائد عليه، كما هو الظن بموسى ووفائه،
اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته، ووطنه، وعلم من طول المدة،
أنهم قد تناسوا ما صدر منه. { سَارَ بِأَهْلِهِ
} قاصدا مصر، { آنَسَ } أي: أبصر
{ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ
لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ }
وكان قد أصابهم البرد، وتاهوا الطريق.
{ 30 } فلما أتاها نودي {
يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فأخبر
بألوهيته وربوبيته، ويلزم من ذلك، أن يأمره بعبادته، وتألهه، كما صرح به
في الآية الأخرى { فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }
{ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } فألقاها {
فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } تسعى سعيا شديدا، ولها سورة مُهِيلة
{ كَأَنَّهَا جَانٌّ } ذَكَرُ الحيات
العظيم، { وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ
} أي: يرجع، لاستيلاء الروع على قلبه، فقال اللّه له: {
يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ }
وهذا أبلغ ما يكون في التأمين، وعدم الخوف.
فإن قوله: { أَقْبِلْ } يقتضي الأمر
بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر
المخوف، فقال: { وَلَا تَخَفْ } أمر له
بشيئين، إقباله، وأن لا يكون في قلبه خوف، ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد
يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه، فقال : {
إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه،
فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب، بل مطمئنا، واثقا بخبر ربه،
قد ازداد إيمانه، وتم يقينه، فهذه آية، أراه اللّه إياها قبل ذهابه إلى
فرعون، ليكون على يقين تام، فيكون أجرأ له، وأقوى وأصلب.
ثم أراه الآية الأخرى فقال: { اسْلُكْ يَدَكَ
} أي: أدخلها { فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } فسلكها وأخرجها، كما ذكر اللّه
تعالى.
{ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
} أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب والخوف. {
فَذَانِكَ } انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء {
بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } أي: حجتان قاطعتان من اللّه، {
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
} فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم، بل لا بد من الآيات
الباهرة، إن نفعت.
فـ { قَالَ } موسى عليه السلام.
معتذرا من ربه، وسائلا له المعونة على ما حمله، وذاكرا له الموانع التي
فيه، ليزيل ربه ما يحذره منها. { رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا } أي: {
فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا } أي: معاونا ومساعدا {
يُصَدِّقُنِي } فإنه مع تضافر الأخبار يقوى الحق فأجابه اللّه إلى
سؤاله فقال: { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
} أي: نعاونك به ونقويك.
ثم أزال عنه محذور القتل، فقال: { وَنَجْعَلُ
لَكُمَا سُلْطَانًا } أي: تسلطا، وتمكنا من الدعوة، بالحجة،
والهيبة الإلهية من عدوهما لهما، { فَلَا
يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } وذلك بسبب آياتنا، وما دلت عليه من الحق،
وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها، فهي التي بها حصل لكما السلطان،
واندفع بها عنكم، كيد عدوكم وصارت لكم أبلغ من الجنود، أولي الْعَدَدِ
والْعُدَدِ.
{ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغَالِبُونَ } وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت، وهو وحده فريد، وقد
رجع إلى بلده، بعد ما كان شريدا، فلم تزل الأحوال تتطور، والأمور تنتقل،
حتى أنجز الله له موعوده، ومكنه من العباد والبلاد، وصار له ولأتباعه،
الغلبة والظهور.
فذهب موسى برسالة ربه { فَلَمَّا جَاءَهُمْ
مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ } واضحات الدلالة على ما قال لهم،
ليس فيها قصور ولا خفاء. { قَالُوا }
على وجه الظلم والعلو والعناد { مَا هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى } كما قال فرعون في تلك الحالة التي ظهر
فيها الحق، واستعل على الباطل، واضمحل الباطل، وخضع له الرؤساء العارفون
حقائق الأمور { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } هذا، وهو الذكي غير الزكي الذي بلغ من
المكر والخداع والكيد ما قصه اللّه علينا وقد علم {
مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
ولكن الشقاء غالب.
{ وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الْأَوَّلِينَ } وقد كذبوا في ذلك، فإن اللّه أرسل يوسف عليه
السلام قبل موسى، كما قال تعالى { وَلَقَدْ
جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ
مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ
اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ }
{ وَقَالَ مُوسَى } حين زعموا أن الذي
جاءهم به سحر وضلال، وأن ما هم عليه هو الهدى: {
رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ
لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } أي: إذا لم تفد المقابلة معكم، وتبيين
الآيات البينات، وأبيتم إلا التمادي في غيكم واللجاج على كفركم، فاللّه
تعالى العالم بالمهتدي وغيره، ومن تكون له عاقبة الدار، نحن أم أنتم {
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } فصار عاقبة الدار لموسى
وأتباعه، والفلاح والفوز، وصار لأولئك، الخسار وسوء العاقبة والهلاك.
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } متجرئا على ربه،
ومموها على قومه السفهاء، أخفاء العقول: { يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي }
أي: أنا وحدي، إلهكم ومعبودكم، ولو كان ثَمَّ إله غيري، لعلمته، فانظر
إلى هذا الورع التام من فرعون!، حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " بل
تورع وقال: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرِي } وهذا، لأنه عندهم، العالم الفاضل، الذي مهما قال فهو
الحق، ومهما أمر أطاعوه.
فلما قال هذه المقالة، التي قد تحتمل أن ثَمَّ إلها غيره، أراد أن يحقق
النفي، الذي جعل فيه ذلك الاحتمال، فقال لـ " هامان " {
فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ } ليجعل له لبنا من
فخار. { فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا } أي:
بناء { لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ولكن سنحقق هذا الظن،
ونريكم كذب موسى. فانظر هذه الجراءة العظيمة على اللّه، التي ما بلغها
آدمي، كذب موسى، وادَّعى أنه إله، ونفى أن يكون له علم بالإله الحق، وفعل
الأسباب، ليتوصل إلى إله موسى، وكل هذا ترويج، ولكن العجب من هؤلاء
الملأ، الذين يزعمون أنهم كبار المملكة، المدبرون لشئونها، كيف لعب هذا
الرجل بعقولهم، واستخف أحلامهم، وهذا لفسقهم الذي صار صفة راسخة فيهم.
فسد دينهم، ثم تبع ذلك فساد عقولهم، فنسألك اللهم الثبات على الإيمان،
وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وتهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب.
قال تعالى: { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } استكبروا على عباد اللّه،
وساموهم سوء العذاب، واستكبروا على رسل اللّه، وما جاءوهم به من الآيات،
فكذبوها، وزعموا أن ما هم عليه أعلى منها وأفضل.
{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا
يُرْجَعُونَ } فلذلك تجرأوا، وإلا فلو علموا، أو ظنوا أنهم يرجعون
إلى اللّه، لما كان منهم ما كان.
{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ } عندما
استمر عنادهم وبغيهم { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي
الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } كانت
شر العواقب وأخسرها عاقبة أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة، المتصلة
بالعقوبة الأخروية.
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ } أي جعلنا فرعون وملأه من الأئمة الذين يقتدي بهم ويمشي
خلفهم إلى دار الخزي والشقاء. { وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ } من عذاب اللّه، فهم أضعف شيء، عن
دفعه عن أنفسهم، وليس لهم من دون اللّه، من ولي ولا نصير.
{ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
لَعْنَةً } أي: وأتبعناهم، زيادة في عقوبتهم وخزيهم، في الدنيا
لعنة، يلعنون، ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم، وهذا أمر
مشاهد، فهم أئمة الملعونين في الدنيا ومقدمتهم، {
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } المبعدين،
المستقذرة أفعالهم. الذين اجتمع عليهم مقت اللّه، ومقت خلقه، ومقت
أنفسهم.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
} وهو التوراة { مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ الْأُولَى } الذين كان خاتمتهم في الإهلاك العام،
فرعون وجنوده. وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة، انقطع الهلاك العام،
وشرع جهاد الكفار بالسيف.
{ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي: كتاب
اللّه، الذي أنزله على موسى، فيه بصائر للناس، أي: أمور يبصرون بها ما
ينفعهم، وما يضرهم، فتقوم الحجة على العاصي، وينتفع بها المؤمن، فتكون
رحمة في حقه، وهداية له إلى الصراط المستقيم، ولهذا قال: {
وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
ولما قص اللّه على رسوله ما قص من هذه الأخبار الغيبية، نبه العباد على
أن هذا خبر إلهي محض، ليس للرسول، طريق إلى علمه إلا من جهة الوحي، ولهذا
قال: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ
}
أي: بجانب الطور الغربي وقت قضائنا لموسى الأمر {
وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } على ذلك، حتى يقال: إنه وصل
إليك من هذا الطريق.
{ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } فاندرس العلم، ونسيت آياته، فبعثناك في
وقت اشتدت الحاجة إليك وإلى ما علمناك وأوحينا إليك. {
وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا } أي: مقيما {
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي: تعلمهم
وتتعلم منهم، حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين، {
وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي: ولكن ذلك الخبر الذي جئت به
عن موسى، أثر من آثار إرسالنا إياك، وَوَحْيٌ لا سبيل لك إلى علمه، بدون
إرسالنا.
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ
نَادَيْنَا } موسى، وَأمرناه أن يأتي القوم الظالمين، ويبلغهم
رسالتنا، ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك. والمقصود: أن
الماجريات، التي جرت لموسى عليه الصلاة والسلام في هذه الأماكن، فقصصتها
كما هي، من غير زيادة ولا نقص، لا يخلو من أحد أمرين.
إما أن تكون حضرتها وشاهدتها، أو ذهبت إلى محالِّها فتعلمتها من أهلها،
فحينئذ قد لا يدل ذلك على أنك رسول اللّه، إذ الأمور التي يخبر بها عن
شهادة ودراسة، من الأمور المشتركة غير المختصة بالأنبياء، ولكن هذا قد
عُلِمَ وتُيُقِّن أنه ما كان وما صار، فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم ذلك.
فتعين الأمر الثاني، وهو: أن هذا جاءك من قِبَلِ اللّه ووحيه وإرساله،
فثبت بالدليل القطعي، صحة رسالتك، ورحمة اللّه بك للعباد، ولهذا قال: {
وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي: العرب، وقريش، فإن الرسالة [عندهم]
لا تعرف وقت إرسال الرسول وقبله بأزمان متطاولة، {
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } تفصيل الخير فيفعلونه، والشر
فيتركونه، فإذا كنت بهذه المنزلة، كان الواجب عليهم، المبادرة إلى
الإيمان بك، وشكر هذه النعمة، التي لا يقادر قدرها، ولا يدرك شكرها.
وإنذاره للعرب لا ينفي أن يكون مرسلا لغيرهم، فإنه عربي، والقرآن الذي
أنزل عليه عربي، وأول من باشر بدعوته العرب، فكانت رسالته إليهم أصلا،
ولغيرهم تبعا، كما قال تعالى { أَكَانَ
لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ
النَّاسَ } { قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا }
{ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ } الذي
لا شك فيه { مِنْ عِنْدِنَا } وهو
القرآن، الذي أوحيناه إليك { قَالُوا }
مكذبين له، ومعترضين بما ليس يعترض به: {
لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } أي: أنزل عليه كتاب
من السماء جملة واحدة. أي: فأما ما دام ينزل متفرقا، فإنه ليس من عند
اللّه. وأي: دليل في هذا؟ وأي: شبهة أنه ليس من عند اللّه، حين نزل
مفرقا؟
بل من كمال هذا القرآن، واعتناء اللّه بمن أنزل عليه، أن نزل متفرقا،
ليثبت اللّه به فؤاد رسوله، ويحصل زيادة الإيمان للمؤمنين {
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيرًا } وأيضا، فإن قياسهم على كتاب موسى، قياس قد نقضوه،
فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ولم يؤمنوا؟ ولهذا قال {
أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ
تَظَاهَرَا } أي: القرآن والتوراة، تعاونا في سحرهما، وإضلال
الناس { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
} فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحق بما ليس ببرهان، وينقضونه
بما لا ينقض، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة، وهذا شأن كل كافر.
ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين، ولكن هل كفرهم بهما كان طلبا
للحق، واتباعا لأمر عندهم خير منهما، أم مجرد هوى؟.
قال تعالى ملزما لهم بذلك: { فَأْتُوا
بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا } أي: من
التوراة والقرآن { أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ } ولا سبيل لهم ولا لغيرهم أن يأتوا بمثلهما، فإنه ما
طرق العالم منذ خلقه اللّه، مثل هذين الكتابين، علما وهدى، وبيانا، ورحمة
للخلق، وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال: أنا مقصودي الحق والهدى
والرشد، وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك، الموافق لكتاب موسى،
فيجب علينا جميعا الإذعان لهما واتباعهما، من حيث كونهما هدى وحقا، فإن
جئتموني بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعته، وإلا، فلا أترك هدى
وحقا قد علمته لغير هدى وحق
.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ
} فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما { فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } أي: فاعلم أن تركهم
اتباعك، ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه، ولا إلى هدى، وإنما ذلك مجرد اتباع
لأهوائهم. { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ
هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } فهذا من أضل الناس، حيث
عرض عليه الهدى، والصراط المستقيم، الموصل إلى اللّه وإلى دار كرامته،
فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى
الهلاك والشقاء فاتبعه وترك الهدى، فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟" ولكن ظلمه
وعدوانه، وعدم محبته للحق، هو الذي أوجب له: أن يبقى على ضلاله ولا يهديه
اللّه، فلهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي: الذين صار الظلم لهم وصفا والعناد
لهم نعتا، جاءهم الهدى فرفضوه، وعرض لهم الهوى، فتبعوه، سدوا على أنفسهم
أبواب الهداية وطرقها، وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها، فهم في غيهم
وظلمهم يعمهون، وفي شقائهم وهلاكهم يترددون.
وفي قوله: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } دليل على أن كل
من لم يستجب للرسول، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول، فإنه لم يذهب إلى
هدى، وإنما ذهب إلى هوى.
{ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ
} أي: تابعناه وواصلناه، وأنزلناه شيئا فشيئا، رحمة بهم ولطفا {
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } حين تتكرر عليهم آياته، وتنزل عليهم
بيناته وقت الحاجة إليها. فصار نزوله متفرقا رحمة بهم، فلم اعترضوا على
ما هو من مصالحهم؟
فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه القصة العجيبة
فمنها أن آيات اللّه تعالى وعبره، وأيامه في الأمم السابقة، إنما يستفيد
بها ويستنير المؤمنون، فعلى حسب إيمان العبد تكون عبرته، وإن اللّه تعالى
إنما يسوق القصص، لأجلهم، وأما غيرهم، فلا يعبأ اللّه بهم، وليس لهم منها
نور وهدى.
ومنها: أن اللّه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه، وأتى بها شيئا فشيئا
بالتدريج، لا دفعة واحدة.
ومنها: أن الأمة المستضعفة، ولو بلغت في الضعف ما بلغت، لا ينبغي لها أن
يستولى عليها الكسل عن طلب حقها، ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى
الأمور، خصوصا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ اللّه أمة بني إسرائيل،
الأمة الضعيفة، من أسر فرعون وملئه، ومكنهم في الأرض، وملكهم بلادهم.
ومنها: أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها ولا تتكلم به، لا
يقوم لها أمر دينها [ولا دنياها] ولا يكون لها إمامة فيه.
ومنها: لطف اللّه بأم موسى، وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة، بأن اللّه
سيرد إليها ابنها، ويجعله من المرسلين.
ومنها: أن اللّه يقدر على عبده بعض المشاق، لينيله سرورا أعظم من ذلك، أو
يدفع عنه شرا أكثر منه، كما قدر على أم موسى ذلك الحزن الشديد، والهم
البليغ، الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها ابنها، على وجه تطمئن به نفسها،
وتقر به عينها، وتزداد به غبطة وسرورا.
ومنها: أن الخوف الطبيعي من الخلق، لا ينافي الإيمان ولا يزيله، كما جرى
لأم موسى ولموسى من تلك المخاوف.
ومنها: أن الإيمان يزيد وينقص. وأن من أعظم ما يزيد به الإيمان، ويتم به
اليقين، الصبر عند المزعجات، والتثبيت من اللّه، عند المقلقات، كما قال
تعالى. { لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى
قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: ليزداد إيمانها
بذلك ويطمئن قلبها.
ومنها: أن من أعظم نعم اللّه على عبده، و [أعظم] معونة للعبد على أموره،
تثبيت اللّه إياه، وربط جأشه وقلبه عند المخاوف، وعند الأمور المذهلة،
فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب، والفعل الصواب، بخلاف من استمر قلقه
وروعه، وانزعاجه، فإنه يضيع فكره، ويذهل عقله، فلا ينتفع بنفسه في تلك
الحال.
ومنها: أن العبد -ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد اللّه نافذ لا بد منه-
فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي أمر بها، ولا يكون ذلك منافيا لإيمانه
بخبر اللّه، فإن اللّه قد وعد أم موسى أن يرده عليها، ومع ذلك، اجتهدت
على رده، وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه.
ومنها: جواز خروج المرأة في حوائجها، وتكليمها للرجال، من غير محذور، كما
جرى لأخت موسى وابنتي صاحب مدين.
ومنها: جواز أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع، والدلالة على من يفعل ذلك.
ومنها: أن اللّه من رحمته بعبده الضعيف الذي يريد إكرامه، أن يريه من
آياته، ويشهده من بيناته، ما يزيد به إيمانه، كما رد الله موسى على أمه،
لتعلم أن وعد اللّه حق.
ومنها: أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف، لا يجوز، فإن موسى عليه
السلام عدَّ قتله القبطي الكافر ذنبا، واستغفر اللّه منه.
ومنها: أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين الذين يفسدون في
الأرض.
ومنها: أن من قتل النفوس بغير حق، وزعم أنه يريد الإصلاح في الأرض،
وتهييب أهل المعاصي، فإنه كاذب في ذلك، وهو مفسد كما حكى اللّه قول
القبطي { إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
} على وجه التقرير له، لا الإنكار.
ومنها: أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه، على وجه التحذير له من شر يقع
فيه، لا يكون ذلك نميمة -بل قد يكون واجبا- كما أخبر ذلك الرجل لموسى،
ناصحا له ومحذرا.
ومنها: أنه إذا خاف القتل والتلف في الإقامة، فإنه لا يلقي بيده إلى
التهلكة، ولا يستسلم لذلك، بل يذهب عنه، كما فعل موسى.
ومنها: أنه عند تزاحم المفسدتين، إذا كان لا بد من ارتكاب إحداهما أنه
يرتكب الأخف منهما والأسلم، كما أن موسى، لما دار الأمر بين بقائه في مصر
ولكنه يقتل، أو يذهب إلى بعض البلدان البعيدة، التي لا يعرف الطريق
إليها، وليس معه دليل [يد] له غير ربه، ولكن هذه الحالة أقرب للسلامة من
الأولى، فتبعها موسى.
ومنها: أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه، إذا لم يترجح عنده
أحد القولين، فإنه يستهدي ربه، ويسأله أن يهديه الصواب من القولين، بعد
أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه، فإن اللّه لا يخيب مَنْ هذه حاله. كما خرج
موسى تلقاء مدين فقال: { عَسَى رَبِّي أَنْ
يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ }
ومنها: أن الرحمة بالخلق، والإحسان على من يعرف ومن لا يعرف، من أخلاق:
الأنبياء، وأن من الإحسان سقي الماشية الماء، وإعانة العاجز.
ومنها استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها، ولو كان اللّه عالما لها،
لأنه تعالى، يحب تضرع عبده وإظهار ذله ومسكنته، كما قال موسى: {
رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }
ومنها أن الحياء -خصوصا من الكرام- من الأخلاق الممدوحة.
ومنها: المكافأة على الإحسان لم يزل دأب الأمم السابقين.
ومنها: أن العبد إذا فعل العمل للّه تعالى، ثم حصل له مكافأة عليه من غير
قصد بالقصد الأول، أنه لا يلام على ذلك، كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين
عن معروفه الذي لم يبتغ له، ولم يستشرف بقلبه على عوض.
ومنها: مشروعية الإجارة، وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها، مما لا يقدر
العمل، وإنما مرده، العرف.
ومنها أنه تجوز الإجارة بالمنفعة، ولو كانت المنفعة بضعا.
ومنها أن خطبة الرجل لابنته الرجل الذي يتخيره، لا يلام عليه.
ومنها: أن خير أجير وعامل [يعمل] للإنسان، أن يكون قويا أمينا.
ومنها: أن من مكارم الأخلاق، أن يُحَسِّن خلقه لأجيره، وخادمه، ولا يشق
عليه بالعمل، لقوله: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ
أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
}
ومنها: جواز عقد الإجارة وغيرها من العقود من دون إشهاد لقوله: {
وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }
ومنها: ما أجرى اللّه على يد موسى من الآيات البينات، والمعجزات الظاهرة،
من الحية، وانقلاب يده بيضاء من غير سوء، ومن عصمة اللّه لموسى وهارون،
من فرعون، ومن الغرق.
ومنها: أن من أعظم العقوبات أن يكون الإنسان إماما في الشر، وذلك بحسب
معارضته لآيات اللّه وبيناته، كما أن من أعظم نعمة أنعم اللّه بها على
عبده، أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا.
ومنها: ما فيها من الدلالة على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم، حيث أخبر
بذلك تفصيلا مطابقا، وتأصيلا موافقا، قصه قصا، صدق به المرسلين، وأيد به
الحق المبين، من غير حضور شيء من تلك الوقائع، ولا مشاهدة لموضع واحد من
تلك المواضع، ولا تلاوة درس فيها شيئا من هذه الأمور، ولا مجالسة أحد من
أهل العلم، إن هو إلا رسالة الرحمن الرحيم، ووحي أنزله عليه الكريم
المنان، لينذر به قوما جاهلين، وعن النذر والرسل غافلين.
فصلوات اللّه وسلامه، على من مجرد خبره ينبئ أنه رسول اللّه، ومجرد أمره
ونهيه ينبه العقول النيرة، أنه من عند اللّه، كيف وقد تطابق على صحة ما
جاء به، وصدقه خبر الأولين والآخرين، والشرع الذي جاء به من رب العالمين،
وما جبل عليه من الأخلاق الفاضلة، التي لا تناسب، ولا تصلح إلا لأعلى
الخلق درجة، والنصر المبين لدينه وأمته، حتى بلغ دينه مبلغ الليل
والنهار، وفتحت أمته معظم بلدان الأمصار، بالسيف والسنان، وقلوبهم بالعلم
والإيمان.
ولم تزل الأمم المعاندة، والملوك الكفرة المتعاضدة، ترميه بقوس واحدة،
وتكيد له المكايد، وتمكر لإطفائه وإخفائه، وإخماده من الأرض، وهو قد
بهرها وعلاها، لا يزداد إلا نموا، ولا آياته وبراهينه إلا ظهورا، وكل وقت
من الأوقات، يظهر من آياته ما هو عبرة لِلْعَالَمِينَ، وهداية
لِلْعَالمِينَ، ونور وبصيرة للمتوسمين. والحمد للّه وحده.