يقول تعالى معظما لكتابه مادحا له { تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ } أي: الآيات الدالة على أحسن المعاني وأفضل
المطالب، { وَقُرْآنٍ مُبِينٍ } للحقائق
بأحسن لفظ وأوضحه وأدله على المقصود، وهذا مما يوجب على الخلق الانقياد
إليه، والتسليم لحكمه وتلقيه بالقبول والفرح والسرور.
فأما من قابل هذه النعمة العظيمة بردها والكفر بها، فإنه من المكذبين
الضالين، الذين سيأتي عليهم وقت يتمنون أنهم مسلمون، أي: منقادون لأحكامه
وذلك حين ينكشف الغطاء وتظهر أوائل الآخرة ومقدمات الموت، فإنهم في أحوال
الآخرة كلها يتمنون أنهم مسلمون، وقد فات وقت الإمكان، ولكنهم في هذه
الدنيا مغترون.
فـ { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا }
بلذاتهم { وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ } أي:
يؤملون البقاء في الدنيا فيلهيهم عن الآخرة، {
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أن ما هم عليه باطل وأن أعمالهم ذهبت
خسرانا عليهم ولا يغتروا بإمهال الله تعالى فإن هذه سنته في الأمم.
أي: وقال المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم استهزاء وسخرية:
{ يا أيها الذي نزل عليه الذكر } على
زعمك { إنك لمجنون } إذ تظن أنا سنتبعك
ونترك ما وجدنا عليه آباءنا لمجرد قولك.
{ لو ما تأتينا بالملائكة }
يشهدون لك بصحة ما جئت به { إن كنت من الصادقين
} فلما لم تأت بالملائكة فلست بصادق، وهذا من أعظم الظلم والجهل.
أما الظلم فظاهر فإن هذا تجرؤ على الله وتعنت بتعيين الآيات التي لم
يخترها وحصل المقصود والبرهان بدونها من الآيات الكثيرة الدالة على صحة
ما جاء به، وأما الجهل، فإنهم جهلوا مصلحتهم من مضرتهم، فليس في إنزال
الملائكة، خير لهم بل لا ينزل الله الملائكة إلا بالحق الذي لا إمهال على
من لم يتبعه وينقد له.
{ وما كانوا إذا }
أي: حين تنزل الملائكة، إن لم يؤمنوا، ولن يؤمنوا بـ
{ منظرين } أي: بمهملين، فصار طلبهم
لإنزال الملائكة تعجيلا لأنفسهم بالهلاك والدمار، فإن الإيمان ليس في
أيديهم وإنما هو بيد الله، { ولو أننا نزلنا
إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا
إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون } ويكفيهم من الآيات إن
كانوا صادقين، هذا القرآن العظيم ولهذا قال هنا:
{ إنا نحن نزلنا الذكر } أي: القرآن
الذي فيه ذكرى لكل شيء من المسائل والدلائل الواضحة، وفيه يتذكر من أراد
التذكر، { وإنا له لحافظون } أي: في حال
إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم،
وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيها ثم في قلوب أمته،
وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل،
فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين،
وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ
أهله من أعدائهم، ولا يسلط عليهم عدوا يجتاحهم.
يقول تعالى لنبيه إذ كذبه المشركون: لم يزل هذا دأب الأمم الخالية
والقرون الماضية: { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع
الأولين } أي: فرقهم وجماعتهم رسلا.
{ وما يأتيهم من رسول }
يدعوهم إلى الحق والهدى { إلا كانوا به
يستهزئون }
{ كذلك نسلكه }
أي: ندخل التكذيب { في قلوب المجرمين }
أي: الذين وصفهم لظلم والبهت، عاقبناهم لما اشتبهت قلوبهم بالكفر
والتكذيب، تشابهت معاملتهم لأنبيائهم ورسلهم بالاستهزاء والسخرية وعدم
الإيمان ولهذا قال: { لا يؤمنون به وقد خلت سنة
الأولين } أي: عادة الله فيهم بإهلاك من لم يؤمن بآيات الله.
أي: ولو جاءتهم كل آية عظيمة لم يؤمنوا وكابروا
{ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء } فصاروا يعرجون فيه، ويشاهدونه
عيانا بأنفسهم لقالوا من ظلمهم وعنادهم منكرين لهذه الآية:
{ إنما سكرت أبصارنا } أي: أصابها سكر
وغشاوة حتى رأينا ما لم نر، { بل نحن قوم
مسحورون } أي: ليس هذا بحقيقة، بل هذا سحر، وقوم وصلت بهم الحال
إلى هذا الإنكار، فإنهم لا مطمع فيهم ولا رجاء، ثم ذكر الآيات الدالات
على ما جاءت به الرسل من الحق فقال:
يقول تعالى -مبينا كمال اقتداره ورحمته بخلقه-:
{ ولقد جعلنا في السماء بروجا } أي: نجوما كالأبراج والأعلام
العظام يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، {
وزيناها للناظرين } فإنه لولا النجوم لما كان للسماء هذا المنظر
البهي والهيئة العجيبة، وهذا مما يدعو الناظرين إلى التأمل فيها والنظر
في معانيها والاستدلال بها على باريها.
{ وحفظناها من كل شيطان رجيم }
إذا استرق السمع أتبعته الشهب الثواقب فبقيت السماء ظاهرها مجملا بالنجوم
النيرات وباطنها محروسا ممنوعا من الآفات.
{ إلا من استرق السمع }
أي: في بعض الأوقات قد يسترق بعض الشياطين السمع بخفية واختلاس،
{ فأتبعه شهاب مبين } أي: بين منير
يقتله أو يخبله. فربما أدركه الشهاب قبل أن يوصلها الشيطان إلى وليه
فينقطع خبر السماء عن الأرض، وربما ألقاها إلى وليه قبل أن يدركه الشهاب
فيضمُّها ويكذب معها مائة كذبة، ويستدل بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
{ والأرض مددناها }
أي: وسعناها سعة يتمكن الآدميون والحيوانات كلها على الامتداد بأرجائها
والتناول من أرزاقها والسكون في نواحيها.
{ وألقينا فيها رواسي }
أي: جبالا عظاما تحفظ الأرض بإذن الله أن تميد وتثبتها أن تزول
{ وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } أي:
نافع متقوم يضطر إليه العباد والبلاد ما بين نخيل وأعناب وأصناف الأشجار
وأنواع النبات.
{ وجعلنا لكم فيها معايش }
من الحرث ومن الماشية ومن أنواع المكاسب والحرف.
{ ومن لستم له برازقين } أي: أنعمنا
عليكم بعبيد وإماء وأنعام لنفعكم ومصالحكم وليس عليكم رزقها، بل خولكم
الله إياها وتكفل بأرزاقها.
أي: جميع الأرزاق وأصناف الأقدار لا يملكها أحد إلا الله، فخزائنها بيده
يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، بحسب حكمته ورحمته الواسعة،
{ وَمَا نُنَزِّلُهُ } أي: المقدر من كل
شيء من مطر وغيره، { إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ
} فلا يزيد على ما قدره الله ولا ينقص منه.
أي: وسخرنا الرياح، رياح الرحمة تلقح السحاب، كما يلقح الذكر الأنثى،
فينشأ عن ذلك الماء بإذن الله، فيسقيه الله العباد ومواشيهم وأرضهم،
ويبقى في الأرض مدخرا لحاجاتهم وضروراتهم ما هو مقتضى قدرته ورحمته،
{ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }
أي: لا قدرة لكم على خزنه وادخاره، ولكن الله يخزنه لكم ويسلكه ينابيع في
الأرض رحمة بكم وإحسانا إليكم.
أي: هو وحده لا شريك له الذي يحيي الخلق من العدم بعد أن لم يكونوا شيئا
مذكورا ويميتهم لآجالهم التي قدرها { وَنَحْنُ
الْوَارِثُونَ } كقوله: { إِنَّا نَحْنُ
نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }
وليس ذلك بعزيز ولا ممتنع على الله فإنه تعالى يعلم المستقدمين من الخلق
والمستأخرين منهم ويعلم ما تنقص الأرض منهم وما تفرق من أجزائهم، وهو
الذي قدرته لا يعجزها معجز فيعيد عباده خلقا جديدا ويحشرهم إليه.
{ إِنَّهُ حَكِيمٌ }
يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، ويجازي كل عامل بعمله، إن خيرا
فخير، وإن شرا فشر.