يخبر تعالى أن هذا القرآن هو آيات الكتاب الدالة على كل ما يحتاج إليه
العباد من أصول الدين وفروعه، وأن الذي أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق
المبين، لأن أخباره صدق، وأوامره ونواهيه عدل، مؤيدة بالأدلة والبراهين
القاطعة، فمن أقبل عليه وعلى علمه، كان من أهل العلم بالحق، الذي يوجب
لهم علمهم العمل بما أحب الله.
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
} بهذا القرآن، إما جهلا وإعراضا عنه وعدم اهتمام به، وإما عنادا
وظلما، فلذلك أكثر الناس غير منتفعين به، لعدم السبب الموجب للانتفاع.
يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير، والعظمة والسلطان الدال على أنه
وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال: {
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ } على عظمها واتساعها
بقدرته العظيمة، { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
} أي: ليس لها عمد من تحتها، فإنه لو كان لها عمد، لرأيتموها {
ثُمَّ } بعد ما خلق السماوات والأرض {
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي هو أعلى المخلوقات،
استواء يليق بجلاله ويناسب كماله.
{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ }
لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم، { كُلِّ
} من الشمس والقمر { يَجْرِي }
بتدبير العزيز العليم، { لأَجَلٍ مُسَمًّى
} بسير منتظم، لا يفتران ولا ينيان، حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي
الله هذا العالم، ونقلهم إلى الدار الآخرة التي هي دار القرار، فعند ذلك
يطوي الله السماوات ويبدلها، ويغير الأرض ويبدلها. فتكور الشمس والقمر،
ويجمع بينهما فيلقيان في النار، ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة؛
فيتحسر بذلك أشد الحسرة وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وقوله { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ
الْآيَاتِ } هذا جمع بين الخلق والأمر، أي: قد استوى الله العظيم
على سرير الملك، يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي، فيخلق ويرزق،
ويغني ويفقر، ويرفع أقواما ويضع آخرين، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويقيل
العثرات، ويفرج الكربات، وينفذ الأقدار في أوقاتها التي سبق بها علمه،
وجرى بها قلمه، ويرسل ملائكته الكرام لتدبير ما جعلهم على تدبيره.
وينزل الكتب الإلهية على رسله ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع
والأوامر والنواهي، ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزها، {
لَعَلَّكُمْ } بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية والآيات
القرآنية، { بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
} فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها، من أسباب حصول اليقين في جميع
الأمور الإلهية، خصوصا في العقائد الكبار، كالبعث والنشور والإخراج من
القبور.
وأيضا فقد علم أن الله تعالى حكيم لا يخلق الخلق سدى، ولا يتركهم عبثا،
فكما أنه أرسل رسله وأنزل كتبه لأمر العباد ونهيهم، فلا بد أن ينقلهم إلى
دار يحل فيها جزاؤه، فيجازي المحسنين بأحسن الجزاء، ويجازي المسيئين
بإساءتهم.
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ } أي:
خلقها للعباد، ووسعها وبارك فيها ومهدها للعباد، وأودع فيها من مصالحهم
ما أودع، { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ }
أي: جبالا عظاما، لئلا تميد بالخلق، فإنه لولا الجبال لمادت بأهلها،
لأنها على تيار ماء، لا ثبوت لها ولا استقرار إلا بالجبال الرواسي، التي
جعلها الله أوتادا لها.
{ و } جعل فيها {
أَنْهَارًا } تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم، فأخرج بها من
الأشجار والزروع والثمار خيرا كثيرا ولهذا قال: {
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ }
أي: صنفين مما يحتاج إليه العباد.
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } فتظلم
الآفاق فيسكن كل حيوان إلى مأواه ويستريحون من التعب والنصب في النهار،
ثم إذا قضوا مأربهم من النوم غشي النهار الليل فإذا هم مصبحون منتشرون في
مصالحهم وأعمالهم في النهار.
{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه
ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ } على
المطالب الإلهية { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
} فيها، وينظرون فيها نظر اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها
وصرفها، هو الله الذي لا إله إلا هو، ولا معبود سواه، وأنه عالم الغيب
والشهادة، الرحمن الرحيم، وأنه القادر على كل شيء، الحكيم في كل شيء
المحمود على ما خلقه وأمر به تبارك وتعالى.
ومن الآيات على كمال قدرته وبديع صنعته أن جعل {
فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ } فيها أنواع
الأشجار { مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ
} وغير ذلك، والنخيل التي بعضها {
صِنْوَانٌ } أي: عدة أشجار في أصل واحد، {
وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } بأن كان كل شجرة على حدتها، والجميع {
يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ } وأرضه واحدة {
وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } لونا وطعما
ونفعا ولذة؛ فهذه أرض طيبة تنبت الكلأ والعشب الكثير والأشجار والزروع،
وهذه أرض تلاصقها لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء، وهذه تمسك الماء ولا تنبت
الكلأ، وهذه تنبت الزرع والأشجار ولا تنبت الكلأ، وهذه الثمرة حلوة وهذه
مرة وهذه بين ذلك.
فهل هذا التنوع في ذاتها وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ } أي: لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم، وتقودهم
إلى ما يرشدهم ويعقلون عن الله وصاياه وأوامره ونواهيه، وأما أهل
الإعراض، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، لا
يهتدون إلى ربهم سبيلا ولا يعون له قيلا.
يحتمل أن معنى قوله { وَإِنْ تَعْجَبْ }
من عظمة الله تعالى وكثرة أدلة توحيده، فإن العجب -مع هذا- إنكار
المكذبين وتكذيبهم بالبعث، وقولهم { أَئِذَا
كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي: هذا بعيد في
غاية الامتناع بزعمهم، أنهم بعد ما كانوا ترابا، أن الله يعيدهم، فإنهم
-من جهلهم- قاسوا قدرة الخالق بقدرة المخلوق.
فلما رأوا هذا ممتنعا في قدرة المخلوق ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق،
ونسوا أن الله خلقهم أول مرة ولم يكونوا شيئا.
ويحتمل أن معناه: وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث، فإن ذلك من العجائب،
فإن الذي توضح له الآيات، ويرى من الأدلة القاطعة على البعث ما لا يقبل
الشك والريب، ثم ينكر ذلك فإن قوله من العجائب.
ولكن ذلك لا يستغرب على { الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ } وجحدوا وحدانيته، وهي أظهر الأشياء وأجلاها، {
وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ } المانعة لهم من الهدى {
فِي أَعْنَاقِهِمْ } حيث دعوا إلى الإيمان فلم يؤمنوا، وعرض عليهم
الهدى فلم يهتدوا، فقلبت قلوبهم وأفئدتهم عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به
أول مرة، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يخرجون منها أبدا.
يخبر تعالى عن جهل المكذبين لرسوله المشركين به، الذين وعظوا فلم يتعظوا،
وأقيمت عليهم الأدلة فلم ينقادوا لها، بل جاهروا بالإنكار، واستدلوا بحلم
[الله] الواحد القهار عنهم، وعدم معاجلتهم بذنوبهم أنهم على حق، وجعلوا
يستعجلون الرسول بالعذاب، ويقول قائلهم: {
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب أليم }
{ و } الحال أنه {
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ } أي: وقائع الله
وأيامه في الأمم المكذبين، أفلا يتفكرون في حالهم ويتركون جهلهم {
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ }
أي: لا يزال خيره إليهم وإحسانه وبره وعفوه نازلا إلى العباد، وهم لا
يزال شرهم وعصيانهم إليه صاعدًا.
يعصونه فيدعوهم إلى بابه، ويجرمون فلا يحرمهم خيره وإحسانه، فإن تابوا
إليه فهو حبيبهم لأنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فهو
طبيبهم، يبتليهم بالمصائب، ليطهرهم من المعايب {
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله
يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ
} على من لم يزل مصرا على الذنوب، قد أبى التوبة والاستغفار والالتجاء
إلى العزيز الغفار، فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم، فإن أخذه أليم
شديد.
أي: ويقترح الكفار عليك من الآيات، التي يعينونها ويقولون: {
لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } ويجعلون هذا
القول منهم، عذرا لهم في عدم الإجابة إلى الرسول، والحال أنه منذر ليس له
من الأمر شيء، والله هو الذي ينزل الآيات.
وقد أيده بالأدلة البينات التي لا تخفى على أولي الألباب، وبها يهتدي من
قصده الحق، وأما الكافر الذي -من ظلمه وجهله- يقترح على الله الآيات فهذا
اقتراح منه باطل وكذب وافتراء
فإنه لو جاءته أي آية كانت لم يؤمن ولم ينقد؛ لأنه لم يمتنع من الإيمان،
لعدم ما يدله على صحته وإنما ذلك لهوى نفسه واتباع شهوته {
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أي: داع يدعوهم إلى الهدى من الرسل
وأتباعهم، ومعهم من الأدلة والبراهين ما يدل على صحة ما معهم من الهدى.
يخبر تعالى بعموم علمه وسعة اطلاعه وإحاطته بكل شيء فقال: {
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى } من بني آدم
وغيرهم، { وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ }
أي: تنقص مما فيها إما أن يهلك الحمل أو يتضاءل أو يضمحل {
وَمَا تَزْدَادُ } الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها، {
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } لا يتقدم عليه ولا يتأخر
ولا يزيد ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه.
فإنه { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
الْكَبِيرُ } في ذاته وأسمائه وصفاته {
الْمُتَعَالِ } على جميع خلقه بذاته وقدرته وقهره.
{ سَوَاءٌ مِنْكُمْ } في علمه وسمعه
وبصره.
{ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ
وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ } أي: مستقر بمكان خفي فيه، {
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } أي: داخل سربه في النهار والسرب هو ما
يختفي فيه الإنسان إما جوف بيته أو غار أو مغارة أو نحو ذلك.
{ 11 } { لَه}
أي: للإنسان { مُعَقِّبَاتٌ } من
الملائكة يتعاقبون في الليل والنهار.
{ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أي: يحفظون بدنه وروحه من كل
من يريده بسوء، ويحفظون عليه أعماله، وهم ملازمون له دائما، فكما أن علم
الله محيط به، فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد، بحيث لا تخفى
أحوالهم ولا أعمالهم، ولا ينسى منها شيء، {
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } من النعمة والإحسان
ورغد العيش { حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ } بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة
إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها فيسلبهم الله عند ذلك
إياها.
وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله،
غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة
والرحمة، { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ
سُوءًا } أي: عذابا وشدة وأمرا يكرهونه، فإن إرادته لا بد أن تنفذ
فيهم.
فـإنه { لَا مَرَدَّ لَهُ } ولا أحد
يمنعهم منه، { وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ
وَالٍ } يتولى أمورهم فيجلب لهم المحبوب، ويدفع عنهم المكروه،
فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله خشية أن يحل بهم من العقاب ما لا
يرد عن القوم المجرمين.
يقول تعالى: { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ
الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي: يخاف منه الصواعق والهدم
وأنواع الضرر، على بعض الثمار ونحوها ويطمع في خيره ونفعه،
{ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ }
بالمطر الغزير الذي به نفع العباد والبلاد.
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ }
وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد، فهو خاضع لربه مسبح بحمده،
{ و } تسبح {
الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي: خشعا لربهم خائفين من سطوته،
{ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ } وهي هذه
النار التي تخرج من السحاب، { فَيُصِيبُ بِهَا
مَنْ يَشَاءُ } من عباده بحسب ما شاءه وأراده وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحَالِ أي: شديد الحول والقوة فلا يريد شيئا إلا فعله، ولا يتعاصى
عليه شيء ولا يفوته هارب.
فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب التي فيها مادة
أرزاقهم، وهو الذي يدبر الأمور، وتخضع له المخلوقات العظام التي يخاف
منها، وتزعج العباد وهو شديد القوة - فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا
شريك له.
أي: لله وحده { دَعْوَةُ الْحَقِّ }
وهي: عبادته وحده لا شريك له، وإخلاص دعاء العبادة ودعاء المسألة له
تعالى، أي: هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء، والخوف، والرجاء، والحب،
والرغبة، والرهبة، والإنابة؛ لأن ألوهيته هي الحق، وألوهية غيره باطلة {
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الأوثان والأنداد التي
جعلوها شركاء لله.
{ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ } أي: لمن
يدعوها ويعبدها بشيء قليل ولا كثير لا من أمور الدنيا ولا من أمور الآخرة
{ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ
} الذي لا تناله كفاه لبعده، {
لِيَبْلُغَ } ببسط كفيه إلى الماء {
فَاهُ } فإنه عطشان ومن شدة عطشه يتناول بيده، ويبسطها إلى الماء
الممتنع وصولها إليه، فلا يصل إليه.
كذلك الكفار الذين يدعون معه آلهة لا يستجيبون لهم بشيء ولا ينفعونهم في
أشد الأوقات إليهم حاجة لأنهم فقراء كما أن من دعوهم فقراء، لا يملكون
مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من
ظهير.
{ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلَالٍ } لبطلان ما يدعون من دون الله، فبطلت عباداتهم ودعاؤهم؛
لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها، ولما كان الله تعالى هو الملك الحق
المبين، كانت عبادته حقًّا متصلة النفع لصاحبها في الدنيا والآخرة.
وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من
أحسن الأمثلة؛ فإن ذلك تشبيه بأمر محال، فكما أن هذا محال، فالمشبه به
محال، والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون في نفي الشيء كما قال تعالى:
{ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا
تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط
}
أي: جميع ما احتوت عليه السماوات والأرض كلها خاضعة لربها، تسجد له {
طَوْعًا وَكَرْهًا } فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع اختيارا
كالمؤمنين، والكره لمن يستكبر عن عبادة ربه، وحاله وفطرته تكذبه في ذلك،
{ وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
} أي: ويسجد له ظلال المخلوقات أول النهار وآخره وسجود كل شيء
بحسب حاله كما قال تعالى: { وإن من شيء إلا
يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم }
فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها كان هو الإله حقا
المعبود المحمود حقا وإلاهية غيره باطلة، ولهذا ذكر بطلانها وبرهن عليه
بقوله:
أي: قل لهؤلاء المشركين به أوثانا وأندادا يحبونها كما يحبون الله،
ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات: أفتاهت عقولكم حتى اتخذتم من دونه
أولياء تتولونهم بالعبادة وليسوا بأهل لذلك؟
فإنهم { لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ
نَفْعًا وَلَا ضَرًّا } وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء
والصفات، المالك للأحياء والأموات، الذي بيده الخلق والتدبير والنفع
والضر؟
فما تستوي عبادة الله وحده، وعبادة المشركين به، كما لا يستوي الأعمى
والبصير، وكما لا تستوي الظلمات والنور.
فإن كان عندهم شك واشتباه، وجعلوا له شركاء زعموا أنهم خلقوا كخلقه
وفعلوا كفعله، فأزلْ عنهم هذا الاشتباه واللبس بالبرهان الدال على توحد
الإله بالوحدانية، فقل لهم: { اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ } فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه.
ومن المحال أيضا أن يوجد من دون خالق، فتعين أن لها إلها خالقا لا شريك
له في خلقه لأنه الواحد القهار، فإنه لا توجد الوحدة والقهر إلا لله
وحده، فالمخلوقات وكل مخلوق فوقه مخلوق يقهره ثم فوق ذلك القاهر قاهر
أعلى منه، حتى ينتهي القهر للواحد القهار، فالقهر والتوحيد متلازمان
متعينان لله وحده، فتبين بالدليل العقلي القاهر، أن ما يدعى من دون الله
ليس له شيء من خلق المخلوقات وبذلك كانت عبادته باطلة.
شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح، بالماء
الذي أنزله لحياة الأشباح، وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي
يضطر إليه العباد، بما في المطر من النفع العام الضروري، وشبه القلوب
الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية التي تسيل فيها السيول، فواد كبير يسع
ماء كثيرا، كقلب كبير يسع علما كثيرا، وواد صغير يأخذ ماء قليلا، كقلب
صغير، يسع علما قليلا، وهكذا.
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها، بالزبد
الذي يعلو الماء ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها
وسبكها، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل، ويبقى
ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة.
كذلك الشبهات والشهوات لا يزال القلب يكرهها، ويجاهدها بالبراهين
الصادقة، والإرادات الجازمة، حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا
ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره، والرغبة فيه، فالباطل
يذهب ويمحقه الحق { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا } وقال هنا: { كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } ليتضح الحق من الباطل والهدى
والضلال.
لما بيّن تعالى الحق من الباطل ذكر أن الناس على قسمين: مستجيب لربه،
فذكر ثوابه، وغير مستجيب فذكر عقابه فقال: {
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ } أي: انقادت قلوبهم للعلم
والإيمان وجوارحهم للأمر والنهي، وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم،
فلهم { الْحُسْنَى } أي: الحالة الحسنة
والثواب الحسن.
فلهم من الصفات أجلها ومن المناقب أفضلها ومن الثواب العاجل والآجل ما لا
عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، {
وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ } بعد ما ضرب لهم الأمثال
وبين لهم الحق، لهم الحالة غير الحسنة، فـ {
لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } من ذهب وفضة
وغيرها، { وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ
} من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم وأنى لهم ذلك؟"
{ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ }
وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه من عمل سيئ وما ضيعوه من حقوق
الله وحقوق عباده قد كتب ذلك وسطر عليهم وقالوا: {
يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما
عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } { و
} بعد هذا الحساب السيئ { وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ } الجامعة لكل عذاب، من الجوع الشديد، والعطش الوجيع،
والنار الحامية والزقوم والزمهرير، والضريع وجميع ما ذكره الله من أصناف
العذاب { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي:
المقر والمسكن مسكنهم.
يقول تعالى: مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم: {
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ
} ففهم ذلك وعمل به. { كَمَنْ هُوَ
أَعْمَى } لا يعلم الحق ولا يعمل به فبينهما من الفرق كما بين
السماء والأرض، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حالا وخير
مآلا فيؤثر طريقها ويسلك خلف فريقها، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه
ويضره.
{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ
} أي: أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، الذين هم لُبّ
العالم، وصفوة بني آدم، فإن سألت عن وصفهم، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم
بقوله:
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
} الذي عهده إليهم والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة،
فالوفاء بها توفيتها حقها من التتميم لها، والنصح فيها {
و } من تمام الوفاء بها أنهم { لَا
يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } أي: العهد الذي عاهدوا عليه الله، فدخل
في ذلك جميع المواثيق والعهود والأيمان والنذور، التي يعقدها العباد. فلا
يكون العبد من أولي الألباب الذين لهم الثواب العظيم، إلا بأدائها كاملة،
وعدم نقضها وبخسها.
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله، من
الإيمان به وبرسوله، ومحبته ومحبة رسوله، والانقياد لعبادته وحده لا شريك
له، ولطاعة رسوله.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم، ويصلون الأقارب
والأرحام، بالإحسان إليهم قولا وفعلا، ويصلون ما بينهم وبين الأزواج
والأصحاب والمماليك، بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية
والدنيوية.
والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل، خشية الله وخوف
يوم الحساب، ولهذا قال: { وَيَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ } أي: يخافونه،
فيمنعهم خوفهم منه، ومن القدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي
الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفا من العقاب ورجاء للثواب.
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا } علىالمأمورات
بالامتثال، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها، وعلى أقدار الله
المؤلمة بعدم تسخطها.
ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر { ابْتِغَاءَ
وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة فإن
هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه، طلبا لمرضاة ربه، ورجاء
للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما
الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر
والفاجر، والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة.
{ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } بأركانها
وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا، {
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً } دخل في
ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون
حيث دعت الحاجة إلى النفقة، سرا وعلانية، {
وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي: من أساء إليهم
بقول أو فعل، لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه.
فيعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويصلون من قطعهم، ويحسنون إلى من
أساء إليهم، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بغير المسيء؟!
{ أُولَئِكَ } الذين وصفت صفاتهم
الجليلة ومناقبهم الجميلة { لَهُمْ عُقْبَى
الدَّارِ } فسرها بقوله: { جَنَّاتِ
عَدْنٍ } أي: إقامة لا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولا؛ لأنهم
لا يرون فوقها غاية لما اشتملت عليه من النعيم والسرور، الذي تنتهي إليه
المطالب والغايات.
ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم {
يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ } من الذكور
والإناث { وَأَزْوَاجِهِمْ } أي الزوج
أو الزوجة وكذلك النظراء والأشباه، والأصحاب والأحباب، فإنهم من أزواجهم
وذرياتهم، { وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } يهنئونهم بالسلامة وكرامة الله لهم
ويقولون: { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي:
حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم، وذلك متضمن لزوال كل
مكروه، ومستلزم لحصول كل محبوب.
{ بِمَا صَبَرْتُمْ } أي: صبركم هو الذي
أوصلكم إلى هذه المنازل العالية، والجنان الغالية، {
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }
فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قيمة، أن يجاهدها، لعلها تأخذ من أوصاف
أولي الألباب بنصيب، لعلها تحظى بهذه الدار، التي هي منية النفوس، وسرور
الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح، فلمثلها فليعمل العاملون وفيها
فليتنافس المتنافسون.
لما ذكر حال أهل الجنة ذكر أن أهل النار بعكس ما وصفهم به، فقال عنهم: {
والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ }
أي: من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله، وغلظ عليهم، فلم يقابلوه
بالانقياد والتسليم، بل قابلوه بالإعراض والنقص، {
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } فلم يصلوا
ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وصلوا الأرحام ولا أدوا
الحقوق، بل أفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي، والصد عن سبيل الله
وابتغائها عوجا، { أُولَئِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ } أي: البعد والذم من الله وملائكته وعباده المؤمنين،
{ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } وهي:
الجحيم بما فيها من العذاب الأليم.